ما سرَّبته صحيفة "نيويورك تايمز" من حوار خاص بين وزير الخارجية الأمريكي جون كيري ومجموعة من المعارضين السوريين، قد يكون هو الجزء الذي لم يفصح الطرفان عنه من اتفاقهما في جنيف، وهو أيضا تمهيد أمريكي لإرساء معادلة جديدة لتسوية الأزمة السورية. إن حديث كيري مع مجموعة من المعارضين السوريين على هامش الجمعية العامة للأمم المتحدة لم يكن سريا أو بعيدا عن النهج العام لسياسة واشنطن إزاء الأزمة السورية، بل كان جزءا حيويا من ترتيبات أمريكية مع الجانب الروسي من جهة، ومناورة من جانب كيري تحسبا لانتصار آراء عدد من مسؤولي البيت الأبيض لدبلوماسيته مع الروس حول تسوية الأزمة السورية، وهناك رؤية تتحدث عن أن صراع الديمقراطيين والجمهوريين في الانتخابات الرئاسية الأمريكية أحد أسباب فشل اتفاق جنيف بين موسكووواشنطن، وبالتالي، لم تجد إدارة أوباما، بمن فيها جون كيري، مفرا من توريط الرئيس المقبل، وخاصة إذا جاء من الجمهوريين، في عدد من القضايا المرتبطة بالعلاقات مع روسيا والسعودية وإيران، ووضع كل العقبات الممكنة لتحميله تبعات الأزمة السورية، وفي حال وصول هيلاري كلينتون، فإن الديمقراطيين يملكون مفاتيح كل التعقيدات التي وضعوها، بما فيها قانون "جاستا" المعيب، والعودة إلى التصميم على رحيل الأسد. من جهة أخرى، فمن الواضح أن صحيفة "نيويورك تايمز" وضعت "لمساتها المثيرة" على الحوار بين كيري والمعارضين السوريين، خاصة فيما يتعلق برأي كيري حول أن "تسليح المعارضة في سوريا أو انخراط بلاده في الحرب هناك، سيؤدي إلى نتائج عكسية، وزيادة سقف المراهنات، وأن توسيع نطاق التدخل الأمريكي في سوريا، سوف يدفع بالأطراف الأخرى المنخرطة في الأزمة السورية نحو القيام بخطوات مشابهة.. ما سيفضي إلى بذل روسيا ما هو أكثر، وتسخير إيران ما هو أكثر، فضلا عن انخراط أوسع لتنظيم حزب الله، وجبهة النصرة، وأن تركيا والمملكة في هذه الأثناء سوف تضخان جميع ما لديهما من أموال، وكل ذلك سينتهي في نهاية المطاف بالقضاء على المعارضة". هذا الكلام يتعارض تماما مع السياسات الأمريكية التي فضَّلت إقامة التحالف الدولي وبقيادة واشنطن، ورفضت التعاون "العسكري" مع روسيا في مكافحة الإرهاب في سوريا، نظرا لثقة البيت الأبيض بأن موسكو تحاول تسييس الملف السوري بشكل تتراجع فيه أولوية إبعاد الأسد عن السلطة، وبالتالي، يحتمل كلام كيري وجها آخر تماما غير الوجه الذي فهمته وسائل الإعلام، إذ أن كيري وضع المعارضة أمام مسؤوليات مباشرة وبذل جهود أكبر وعدم الاعتماد الكامل على الولاياتالمتحدة، وإلا فمن الممكن أن تسير الأمور في اتجاه "القبول بخوض انتخابات يشارك فيها رئيس النظام السوري بشار الأسد". أما فيما يتعلق بكلام كيري حول أن "بلاده لن تقحم نفسها في سوريا"، فمن الصعب قبوله، لأن الولاياتالمتحدة تدخلت عمليا في سوريا، وهناك قوات أمريكية في العراق وأفغانستان، إضافة إلى قوات خاصة أمريكية في الأراضي السورية، لقد استغل كيري هذا الحوار ليؤكد على أن الجهود الدبلوماسية الأمريكية على الساحة السورية "لم تكن معززة باستخدام القوة، حيث أن ثلاث شخصيات فقط في الإدارة الأمريكية طالبت باستخدام القوة، الأمر الذي انعكس عليّ خسارة في الجدل حول استخدام القوة في سوريا من عدمه"، أي أن الولاياتالمتحدة تنفي أنها استخدمت القوة إلى الآن في حل الأزمة السورية، وبالتالي، فاتهامات موسكو وطهران ونظام الأسد عارية تماما عن الصحة، وأن واشنطن ملتزمة بدعم المعارضة ضد نظام الأسد، وما يؤكد ذلك، هو أن كلام كيري حول أن "اللامبالاة التي ينتهجها الأسد على جميع الأصعدة، قد تدفع بالحكومة الأمريكية إلى تبديل مسارها بالكامل على الحلبة السورية، وذكّر الحضور بالتغير الحاصل في الولاياتالمتحدة في الوقت الراهن تجاه الخطوات الأمريكية إزاء سوريا، وأن السبب في ذلك يكمن في انهيار التفاهمات الروسية - الأمريكية لوقف إطلاق النار في سوريا، والعملية العسكرية واسعة النطاق لقوات النظام في حلب". إن ما سرَّبته الصحيفة الأمريكية من كلام كيري لا يعني إطلاقا تخلي الولاياتالمتحدة عن المعارضة السورية، بل على العكس تماما، يعني البحث عن قنوات وأدوات أخرى أكثر تشددا مع نظام دمشقوموسكو، وأنه ليس فقط على المعارضة السورية أن تكون مستعدة لمثل هذا السيناريو، بل وأيضا الأطراف الإقليمية الحريصة على إزاحة الأسد ومحاربة الإرهاب، وبالتالي، فكل ما تسرَّب هو مجرد حوار للتشاور وبحث مبادرات وأفكار جديدة قد لا تتعارض مع الخط الأساسي للفكرة التي تكوَّن على أساسها التحالف الدولي بقيادة واشنطن، وبمجرد إعلان نتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية ستسير الأمور في طريقها الطبيعي. المثير هنا أنه عقب تسريب "نيويورك تايمز" لأطراف الحوار بين كيري والمعارضة السورية، اعتبرت الناطقة باسم الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا أن أي عدوان أمريكي مباشر على سوريا سيؤدي إلى نتائج كارثية على منطقة الشرق الأوسط، وقالت إن اعتداء الولاياتالمتحدة المباشر ضد سلطات دمشق وضد الجيش السوري سيؤدي "إلى تحولات مريعة" في الشرق الأوسط، وتوقعت زاخاروفا أن يؤدي تغيير النظام الحاكم في دمشق إلى ما هو أبعد من فراغ السلطة، وهو الفراغ السياسي الذي سيمتلئ على الفور "بالمعتدلين" الذين في حقيقة الأمر ليسوا إلا إرهابيين من كل الأصناف والأشكال والذين لا يمكن فعل أي شيء تجاههم (وهذه هي توصيفات الدبلوماسية الروسية). هناك أحاديث كثيرة في الأروقة السياسية والدبلوماسية تتحدث عن أن لا تصريحات زاخاروفا ولا تصريحات كيري تعكس حقيقة الاتفاقات والخلافات بين موسكووواشنطن، وإنما تعكس بوادر صفقة روسية – أمريكية قد تشكِّل لاحقا مفاجأة للرأي العام، لأن موسكووواشنطن تعرفان جيدا أن الأطراف المتصارعة في الداخل السوري، بما فيها نظام دمشق، لم تتقبل الاتفاقات الروسية – الأمريكية، وكذلك القوى الإقليمية الداعمة لهذه الأطراف. ومع ذلك لا يمكن تجاهل أو استثناء وجود مشاكل وخلافات بين موسكووواشنطن على تحديد مناطق النفوذ والأولويات والحصص، وليس من المستبعد أن نسمع قريبا عن تنسيقات جديدة بين موسكووواشنطن تسمح بنشر قوات خاصة روسية وأمريكية تحت غطاء تأمين وحماية قوافل المساعدات الإنسانية في حلب أو غيرها.