التعليم الأجنبى لم يمنع فوزية العشماوى من الإحساس بالأحياء الشعبية «أمواج العمر» هى السيرة الذاتية للدكتورة فوزية العشماوى أستاذة الأدب العربى والحضارة العربية فى جامعة جنيف بسويسرا، وقد صاغتها فى شكل روائى جميل. لنقرر بداية أن ذكريات الطفولة والمراهقة هى أفضل ما فى هذا العمل، رغم معاناة فوزية من تفضيل الأم لأولادها الذكور على الإناث. حاول الأب بعض الشىء تعويض ابنته الوسطى عن هذه التفرقة، مثلا بالنزول معها مرة إلى محلات (هانو) ليشترى لها معطفا جديدا عندما اشترت الأم للآخرين معاطف جديدة فى حين أنها لم تعطِ فوزية إلا واحدا قديما كان لأختها الأكبر سنًّا. إلا أن أجمل ما قدّمه هذا الأب المحب لابنته، هو أنه لاحظ تفوقها الدراسى فنقلها من المدرسة الحكومية، إلى أخرى أجنبية بمصروفات دراسية مرتفعة. لم يعرف هذا الأب حينها أنه قدّم لها الكنز الذى سيتكفل لاحقا بتحويل حياتها إلى متعة مستمرة من الدراسة والإنتاج العلمى. تدرس الطفلة فوزية، ثم المراهِقة فوزية، فى مدرسة فرنسية، من المدارس التى يتعلم فيها التلاميذ تاريخ وجغرافية وأدب فرنسا، فيحصلون على البكالوريا الفرنسية، ولكنهم يدرسون فى نفس الوقت اللغة العربية ويحصلون على الثانوية العامة المصرية. كان الأب محقًّا فى حُسن ظنه بابنته، إذ كانت فوزية هى الأولى على كل مدارس اللغات فى البكالوريا. لم يمنع هذا التعليم الأجنبى هذه الفتاة جيّاشة المشاعر من الإحساس بالأحياء الشعبية التى سكنتها مع أسرتها. تستعيد السيدة المتقدّمة فى السن لاحقا نفس تلك الأحاسيس الكوزموبوليتانية (المدينة الكونية العالمية) عندما تسكن مدينة جنيف بسويسرا حيث تعمل أستاذة فى جامعتها، وحيث تقيم البعثات الدبلوماسية لكل بلاد العالم بفضل وجود عدد كبير من المنظمات الدولية فيها. رغم الدراسة الشاقّة فى تلك المدرسة الأجنبية فإن الفتاة أقبلت كذلك على تعلّم البحث فى الكتب، وعلى تعوّد القراءة، فتلك المدرسة علّمتها حب الكتب الذى وجد ميلا طبيعيا لديها، فبدأت فى التردّد على مكتبة المركز الثقافى الفرنسى بشارع النبى دانيال (موقعه الذى ما زال يشغله) بهدف استعارة وقراءة كتب من خارج المنهج المدرسى، وهى تذكر هنا مثلا كتاب «الجنس الثانى» لسيمون دى بوفوار، الذى أضاف إلى شخصيتها الرغبة فى التمرّد على الوضعية الدونية التى تعانى منها المرأة الشرقية فى مقابل المجتمع الذكورى. من الملاحظ كذلك أنه لم تكن هناك أى غضاضة فى أن تسافر فتيات المدرسة المسلمات لقضاء جزء من إجازة الصيف فى دار راهبات بمرسى مطروح. أين ذهب هذا التسامح الدينى المذهل؟ لم تتحول أىٌّ من هؤلاء الفتيات إلى المسيحية، بل هن فقط تعلمن حب المسيحيين. أين ذهب هذا المجتمع الجميل؟ تستمر فوزية فى ضرب المثل تلو الآخر لنعرف منها كم كانت حياتها جميلة. فهى عندما تلتحق بكلية الآداب بجامعة الإسكندرية، يصاب والدها بأزمة مالية، نتجت عنها كذلك أزمة صحية، فما كان من تلك الشابة إلا أن تعمل كمدرسة لغة فرنسية فى فصول الابتدائى بمدرستها، لتحصل بذلك على مرتب شهرى معقول، وتساعد بذلك والدها فى أزمته، وتستمر فى نفس الوقت فى متابعة الدراسة فى الجامعة، بل تتفوق على زملائها المتفرغين للدراسة. لاحقا عندما تحصل على الليسانس وتقبل الزواج من أحد زملائها تكون مدخراتها (800 جنيه أى ما يساوى حاليا بعد خمسين سنة ما لا يقل عن 80 ألفا من الجنيهات) هى مصاريف الزواج.