الثورات لا تحرر الشعوب من العبودية وحسب، ولكنها تكسر القيود المفروضة على الإبداع والكلمة. تلك كانت قصة كتاب «استعمار مصر» للبريطانى تيموثى ميتشل. إذ احتاجت ترجمته إلى العربية، التى أنجزها بشير السباعى قبل نحو 15 عاما، لانتفاضة شعبية كبرى من قبل المصريين، وسقوط نظام مبارك الاستبدادى على يد ثوار 25 يناير، لتظهر نسخة كاملة منها، وعلى نحو يطابق مثيلتها الإنجليزية، ضمن إصدارات «مدارات للأبحاث والنشر»، قبل بضعة أشهر. الكتاب يتناول الشأن المصرى أواخر القرن التاسع عشر، وحتى نهاية القرن العشرين، بينما نجا من فخ الغرق والانزلاق فى الشأن السياسى فى تلك الفترة الحساسة من التاريخ المصرى الحديث، فوسع مجال تركيزه ليشمل مسائل أكثر رحابة كالاقتصاد وشؤونه، حيث يلقى الضوء على ما يمكن تسميته «النطاق أو المضمون الاستعمارى» التى تأسس فى ظله عدد من العلوم التطبيقية والدراسات الاجتماعية، كعلوم السياسة والاقتصاد، والهندسة، والإدارة، وغيرها. بينما بدا المؤلف حريصا على نفى مزاعم المستشرقين بوصم الشرق باختراع نمط الملكية الفردية. ولعملية ترجمة الكتاب إلى العربية، قصة تعكس القمع الفكرى فى عصر مبارك. فالمترجم كان حريصا على نقل الدراسات الأربع التى يضمها الكتاب، غير أن الناشر المصرى رفض طرح الدراسة المعنونة ب«مصر الأمريكية»، ما حدا بدار نشر فلسطينية للتصدى لتلك المهمة، ليصدر الكتاب بعنوان «مصر فى الخطاب الأمريكى»، بينما لم يتمكن المترجم من تقديم الكتاب كاملا، وفق هيئته الحالية، إلا بعد ثورة 25 يناير، لتتصدى «مدارات للأبحاث والنشر»، لطبعه دونما أى محاذير. الكتاب الذى بدا فى فصوله الأخيرة، وكأنما يتنبأ بالثورة، فى حين يقضى تقريبا على خرافة كان يتبناها نظام مبارك، استنادا إلى دعم أمريكى مطلق، مفادها أن مصر تعيش كارثة اقتصادية واجتماعية، جراء الخلل الصارخ بين الجغرافيا والديموغرافيا، بمعنى أن مشكلات بلاد النيل تكمن فى أن سكانها يتضاعفون بصورة مذهلة عدديا، فى مقابل أن الدلتا ومساحة الوادى ثابتة، دونما أى زيادة أو تمدد. وعليه يضرب الكتاب تلك الفرضية العبثية فى مقتل، ويعتبرها تزييفا مقصودا للوعى الجمعى للمصريين، بغرض عدم الوقوف على مشكلاتهم الحقيقية، ومن ثم تتفاقم وتتسع وتتصاعد، ويغدو حلها، أو على الأقل تجاوز آثارها بأقل فاتورة خسائر ممكنة، ضربا من الخيال. المؤلف تيموثى ميتشل، صور الأمر على أنه جزء من عمليات القهر والتنكيل والاضطهاد، التى مارسها على نطاق واسع نظام مبارك، بغرض تغييب الوعى عن المشكلة الرئيسية فى مصر، وهى الخلل فى توزيع الثروة والسلطة، على جميع أفراد الشعب. ويبقى الهدف الأكبر للكتاب، مرتكزا، حسب «مدارات»، على تعميق وعى المصريين عموما بتاريخ الدولة الحديثة فى بلادهم، بعدما قام على أساس من الهيمنة والقهر لسكانها، فى حين لم تكفل الدولة لهم فى المقابل أى شكل من أشكال الأمان الاجتماعى أو الاقتصادى، ولم تستقل أبدا عن الهيمنة الغربية المباشرة أو غير المباشرة. ورغم أن الكتاب ظهر للنور، قبل نحو عقد ونصف العقد، من بداية المد الثورى المصرية، فإن فصوله وموضوعاته، ربما تمكنا من استشراف مستقبل الدولة المركزية على ضفاف النيل، حيث لم تغادر مصر ذلك النمط حتى بعد ثورة 25 يناير، بينما ميراث السلطوية تضاعف تحت حكم الإخوان عما كان عليه فى عهد مبارك فى ظل غياب تغيير جذرى فى قواعد العمل داخل مؤسسات الدولة من قبل السلطة، واكتفائها بسيطرتها فقط على المؤسسات، فضلا عن أن الإخوان كغيرهم من تيارات الإسلام السياسى بأن الشريعة ستتجسد حتما عبر ذات البوابة السلطوية القمعية.