عندما تصاعدت أحداث الموجة من الثورة المصرية فى الخامس والعشرين من يناير، وقرر آلاف المصريين الزحف نحو قصر القبة لطرد مبارك من هناك، طلب الجيش بشكل واضح من مبارك التنحى حقنًا للدماء، بالإضافة إلى تأكيد أن القوات المسلحة لن تطلق النار على المصريين، هنا كان قرار مبارك التنحى رغم تشبث الوريث ونواحه على ضياع فرصته فى وراثة حكم مصر. شهدت أيام الثورة الثمانية عشر عمليات قتل منظمة للثوار، واقتحام السجون وتهريب المساجين، اقتحام أقسام الشرطة والمقر الرئيسى لجهاز مباحث أمن الدولة فى مدينة نصر. تسارعت الأحداث بعد الثورة، وتم حل الحزب الوطنى وإعادة مقراته إلى الدولة المصرية، كما جرت صياغة قانون العزل السياسى ومنع قيادات الحزب المنحل من العمل السياسى لعقد من السنوات، كما حكم على مبارك بالسجن المؤبد لأنه علم بقتل الثوار فى التحرير ولم يوقف عملية القتل، وقبع عدد آخر من رموز النظام فى السجون باتهامات مختلفة. لم يطرح أحد فى ذلك الوقت فكرة إجراء مصالحة وطنية لاستيعاب قيادات وكوادر الحزب الوطنى، بل تم إطلاق مصطلح «الفلول» عليهم بكل ما ينطوى عليه من مدلولات سلبية تقتضى الابتعاد عنهم وتجنب التعامل معهم. وخلال المرحلة من سقوط نظام مبارك والحزب الوطنى وحتى سقوط مرسى وحكم المرشد، ارتكب تيار الإسلام السياسى وفى صدارته جماعة الإخوان جرائم ضخمة بحق مصر والمصريين، كما تكشفت حقائق حول دور الجماعة فى قتل الثوار إبان ثورة الخامس والعشرين من يناير، وترتيبات الجماعة وتخابرها مع حركة حماس وحزب الله فى عمليات اقتحام السجون المصرية -وتحديدا وادى النطرون والمرج- وخلال العام الذى قضاه مرسى فى السلطة ارتكب هو شخصيا وجماعته وتيار الإسلام السياسى عشرات الجرائم بحق مصر والمصريين، وهو أمر متروك للقضاء المصرى يحقق فيه ويصل إلى الحقائق الكاملة ويعرضها على الشعب. فهناك أدلة قاطعة على ارتكاب مرسى جريمة التحريض على قتل المصريين، وأنه كان على علم تام بعمليات القتل ولم يتدخل لمنعها، كما أن جماعته مارست عمليات التحريض وارتكبت جرائم القتل المباشر، وهناك أيضا اتهامات بالتخابر مع جهات أجنبية على حساب الأمن القومى للبلاد وغيرها من الجرائم التى سيتم التحقيق فيها، وأبسطها جرائم نهب المال العام وسرقته. فى ظل هذه الأجواء خرجت أصوات كثيرة تتحدث عن ضرورة إجراء المصالحة الوطنية مع تيار الإسلام السياسى وهو أمر إيجابى، فالحديث عن المصالحة الوطنية مهم، وبدء مرحلة جديدة من التوافق الوطنى أكثر أهمية، ولكن فى الوقت نفسه لا بد من تحديد معنى المصالحة الوطنية، ما المقصود بها هنا؟ فى تقديرى لا بد أن تكون المصالحة فى حدود القانون ومقتضيات الأمن القومى لمصر، بمعنى أن المصالحة لا تعنى القفز فوق القانون وإغلاق ملفات جرائم نظام مرسى والجماعة والتيار، لا مصالحة مع من ارتكب جرائم. المصالحة لا تعنى التفريط فى دولة القانون ولا تعنى التسامح فى الإضرار بالأمن القومى المصرى، ولا تنطوى على القفز فوق جثث ودماء مصرية مدنية وعسكرية. المصالحة مطلوبة نعم، ولكن مع تطبيق القانون على الجميع، مَن ارتكب جريمة مهما كان سيحاسب عليها، ومَن لم يرتكب جريمة لن يعاقب على انتمائه السياسى، فجوهر المصالحة هو تطبيق القانون وأساسها لا عقاب دون جريمة، ولا إفلات من العقاب لمجرم. وقد آن الأوان لأن يتوقف تجار الشنطة الذين يحملون مصالحهم ويجولون بها باحثين عن مشترٍ لهم على حساب مصر والمصريين، البعض يدعى الحكمة فيطلق مبادرات للمصالحة ويرمى بالأساس إلى طرح نفسه كجزء من المنظومة الجديدة، بعد أن غاصت قدماه فى منظومة الوحل التى تهاوت. يطرح فكرة المصالحة الوطنية التى تقفز على حكم القانون ومصالح الأمن القومى المصرى، وهو طرح خطر للغاية ويمهد الطريق أمام تفجير المرحلة الجديدة. مصالحة وطنية «نعم»، تجاوز للقانون وتفريط فى الأمن القومى المصرى «لا».