سهر الإيرانيون حتى الصباح يحتفلون فى الشوارع بفوز المرشح المعتدل حسن روحانى. امتلأت الشوارع بالورد والحلوى والغناء وحتى البكاء. سيدة إيرانية مسحت دموعها فى شارع «ولى عصر» وسط طهران الذى شهد أكبر الاحتفالات، وهى تسمع شابا يتلو عليهم ما قاله روحانى بعد فوزه «أشكركم على المعجزة». يتنفس الإيرانيون الصعداء، ومعهم كل مؤسسات البلاد. فقد نجت نزاهة الانتخابات إيران من «غضب يونيو». صحف الصباح فى طهران والكثير منها رسمى محافظ، اعترف بهزيمة المحافظين وهنأ بأناقة الرئيس المنتخب والشعب الإيرانى. أما الصحف الإصلاحية فكانت حاسمة فى رسم دلالات الانتصار. صحيفة «شرق» أهم صحف الإصلاحيين عنونت: «باز آمد اميد» (لقد عدنا)، فى إشارة إلى عودة الإصلاحيين إلى الحكم لأول مرة منذ 2007، و«الإيرانيون صوَّتوا للإصلاح والاعتدال». هذه كلها أنباء طيبة لروحانى. فأول ما سيحتاج إليه ليحقق أى نجاح هو اصطفاف الداخل خلفه. ويبدو أن المرشد الأعلى آية الله على خامنئى سيدعم هذا. ليس هذا وقت الصراع الداخلى حول «الأمة الإيرانية العظيمة» (الإصلاحيون يفضلون هذا التعبير) و«الجمهورية الإسلامية العظيمة» (تفضيل المحافظين)، المهم أن تكون «عظيمة». التفويض الشعبى الكبير الذى حصل عليه روحانى، سيساعده فى الداخل. لكن مشكلات إيران أعمق كثيرا من الداخل ومن الأزمة الاقتصادية والاستقطاب السياسى. فإيران مستهدفة من أمريكا فى المنطقة منذ قيام الثورة الإيرانية 1979. وخلال السنوات ال35 الماضية انتهجت إيران سياسة خارجية «هجومية» ردا على السياسات «العدائية» حيالها. لا تلوموا إيران إن كانت تتحرك بعقلية الحصار، فهى محاصرة فعلا. فقبل الثورة عام 1979 كان نحو 90% من النفط الإيرانى تتحكم فيه أمريكا وبريطانيا وفرنسا، وهم لم ينسوا حتى الآن طعم ذلك النفط ويريدون استعادته. ويريدون معه ليس فقط الأرباح الطائلة، بل أيضا الهيمنة الدولية والنفوذ الاستراتيجى الذى تتمتع به القوى التى تملك مصادر الطاقة. اليوم منطقة الشرق الأوسط بها ثلثا احتياطات النفط والغاز فى العالم. (السعودية ثم العراق ثم إيران حسب ترتيب المخزون الاحتياطى). حقول السعودية مفتوحة أمام الشركات الأمريكية. أما العراق فقد كان من أول القرارات التى اتخذتها أمريكا بعد احتلالها له 2003، هو تنصيب حكومة عراقية، اختارت واشنطن أعضاءها، وتغيير قوانين النفط. فبعدما كان القطاع النفطى العراقى مملوكا للدولة العراقية، تم تخصيصه وفتحه للاستثمارات الأجنبية واليوم غالبية النفط العراقى مملوك لشركات أمريكية. (الخارجية الأمريكية عندما تعطل قانون تحرير القطاع النفطى فى البرلمان العراقى بسبب اختلاف الكتل السياسية، هددت العراقيين وحذرتهم من التلكؤ). أما فى سوريا، وبينما هناك ملايين السوريون مشردون داخليا وخارجيا بسبب تمويل وتسليح أمريكا لجماعات جهادية متطرفة مرتبطة بتنظيم القاعدة، لديها جدول أعمال مختلف كليا عن آمال الشعب السورى، لا تجد أمريكا ما هو أهم من قرار صدر قبل أيام بتخفيف القيود على الصادرات إلى المناطق التى يسيطر عليها مقاتلو المعارضة فى سوريا للمساعدة، اسميا، فى إعادة بناء مرافق البنية التحتية المدمرة، بينما الهدف الحقيقى كما قال وزير الخارجية الأمريكى جون كيرى بنفسه «المساعدة أيضا فى تسهيل مبيعات النفط من المناطق التى تحت سيطرة المعارضة السورية»، وذلك فى إشارة إلى الحقول النفطية المحيطة بمدينة الرقة، شرق سوريا، والتى تسيطر عليها «جبهة النصرة» التى أعلنت ولاءها للقاعدة. كما تريد أمريكا أن تبيع المعارضة السورية نفط الحسكة ودير الزور بالقرب من الحدود مع العراق. تسابق أمريكا الزمن للاستحواذ على ثروات المنطقة وتفكيكها لصالح توسعات إسرائيلية كاسحة مقبلة. فمنذ سقوط الاتحاد السوفييتى مطلع التسعينيات، والاستراتيجية الأمريكية فى الشرق الأوسط تقوم على استغلال الفراغ الاستراتيجى الذى خلفه ذلك السقوط، وانتهاز فرصة العشرين أو الثلاثين عاما التى تفصل بين السقوط السوفييتى، وصعود منافس دولى موازٍ. لتحقيق هذا، خلقت أمريكا وهما اسمه «العدو الإيرانى» بديلا عن الاتحاد السوفييتى فى العالم، وبديلا عن إسرائيل فى الشرق الأوسط. صناعة إيران كعدو تمت على مراحل، أولا المبالغة فى حجم الخطر النووى الإيرانى، ومن يتابعون الملف الإيرانى يعرفون أن المبالغات والأكاذيب فى هذا الملف أكبر بما لا يقاس من الحقائق. ثم تصوير إيران كمنافس إقليمى خطير ومتطرف ساعٍ إلى عدم الاستقرار، ونعت إيران بكل ما هو شر. ثم اختلاق جهود دبلوماسية ملفقة وهمية هدفها إعطاء الانطباع بأن الغرب يفعل كل ما فى وسعه لعدم التصعيد. ثم بث فكرة مزيفة عن صراع متوهَّم سنى، شيعى، وبناء ذريعة للتدخل ووضع خط أحمر مصطنع قبل التصعيد العسكرى. وأخيرا إزالة تاريخ الصراع وإخفائه ومحوه، كأن الصراع بلا تاريخ. كأنه وُجد فجأة. وينسى الأمريكيون أن إيران عانت على أيديهم كما عانى العراقيون والمصريون والسوريون (على سبيل المثال لا الحصر) فهم أطاحوا بحكومة الإيرانيين المنتخبة الديمقراطية وزعيمهم الوطنى محمد مصدق 1953 بانقلاب قادته الاستخبارات الأمريكية لأن مصدق أمّم نفط بلاده كى يستفيد منه شعبه. وبعد الثورة الإيرانية مباشرة 1979، تحركت جيوش صدام حسين لاحتلال إيران بدعم وتمويل وتسليح وتخطيط أمريكى، عربى. وطوال 35 عاما لا يخلو أسبوع من تقرير غربى يوضح تفاصيل الضربة العسكرية «الاستباقية» و«الوقائية» التى سيشنها الغرب أو إسرائيل على المواقع النووية الإيرانية. ولا يخلو شهر من عقوبات جديدة، أو اتهامات لإيران برعاية الإرهاب وزعزعة استقرار المنطقة، ووضعها فى «محور الشر» وقائمة «الدول المارقة»، بينما حاملات الطائرات الأمريكية فى الخليج على بعد 150 ميلا من الأراضى الإيرانية، وبينما تنفق أمريكا ملايين الدولارات كل عام، من أجل زعزعة الاستقرار الداخلى فى إيران وخلق اضطرابات فى المحافظات الحدودية الإيرانية، من بلوشستان جنوب شرق، إلى خوزستان العرب وكردستان فى الغرب وأذربيجان فى الشمال. وتؤجج أمريكا الصراع الطائفى فى الشرق الأوسط، من سنى إلى شيعى ومن مسلم إلى مسيحى، وهو على وشك الانفجار فى وجه الجميع. بدءًا من العراق الذى يكافح اندلاع حرب أهلية جديدة بعدما زرع الحاكم الأمريكى بول بريمر جذور الطائفية وتفكيك العراق إلى دويلات فى الدستور الذى وضعه الأمريكيون للعراقيين، إلى سوريا التى باتت عاصمة الحركات الجهادية المتطرفة فى العالم، إلى أفغانستان التى ستخرج منها القوات الأمريكية العام المقبل بعدما دمرت النسيج الاجتماعى لهذا البلد. وما دفعته أمريكا كتكلفة احتلال، ستأخذه من ثروات الشعب الأفغانى. فهى حرصت قبل أن تغادر على أن تجرى مسحا جيولوجيا استغرق عامين تكلف 17 مليون دولار، أظهر أن أفغانستان تمتلك نفطا وثروات منجمية تقدر بتريليون دولار، ولديها أكبر احتياطى من مادة الليثيوم النادرة التى تستخدم فى صناعة الهواتف النقالة والكمبيوتر، وأن وسط البلاد يحتوى على نحو مليار برميل نفط. وغنى عن القول طبعا أن أمريكا وقّعت بالفعل عقود تنقيب وتعدين واستخراج لكل هذه الثروات. (زلماى خليل زاده الذى كان مستشارا فى احتلال العراق، ثم شغل منصب سفير أمريكا فى أفغانستان يدير وابنه شركة نفطية اسمها (جريفون بارتنرز) تساعد الشركات الأمريكية الأخرى على نيل مشاريع فى العراق وأفغانستان. وقد اشتكى خليل زاده حكومة حميد كرازى لأنها أعطت بعض عقود النفط للصين). أما فى أذربيجان، على الحدود الشمالية الغربيةلإيران، فقد عززت أمريكا وإسرائيل وجودهما العسكرى هناك وحصلت إسرائيل على موافقة للدخول إلى قواعد جوية متاخمة للحدود مع إيران، يمكن أن تكون منصة انطلاق للهجوم على المنشآت النووية الإيرانية. وفى باكستان، شرق إيران، الدولة شبه منهارة وصعود الجماعات السلفية الجهادية، الكثير منها مدعوم من أمريكا، يشكل خطرا بالغا على إيران. السياسة الخارجية الإيرانية هجومية فعلا، وتحاول ونجحت فى خلق مشكلات لأمريكا فى العراق ولبنان وغزة وسوريا وباكستانوأفغانستان، لكن أليس هكذا تتحرك الدول عندما تواجه سياسات عدائية تهددها؟ والصراع الحالى فى المنطقة صراع سياسى. وما استغلال العنصر الطائفى إلا محاولة تشويش، فالسياسة الخارجية الإيرانية تقوم على مبدأ المصلحة بالأساس. فقد دعمت طهران أرمينيا، دولة مسيحية، ضد أذربيجان الشيعية لدواعى المصلحة السياسية. ودعمت طهران ومولت وسلحت لأكثر من ثلاثة عقود جماعات عربية سنية مثل «حماس» و«الجهاد الإسلامى» لمقاومة إسرائيل، قبل أن تقرر هذه الجماعات رمى السلاح، وقطع العلاقات مع إيران والتوجه إلى قطر. ودعم إيران الحالى لنظام بشار الأسد لم يكن ليقلّ لو كان الأسد سنيا. إيران تدعمه لأن وجوده ووجود حزب الله جزء من مصالحها. معاذ الخطيب الرئيس المستقيل للمجلس الوطنى السورى المعارض قال بعد فتوى القرضاوى حول الجهاد فى سوريا: «إن بعض الفتاوى الدينية تزيد العمى السياسى.. هناك دول تخاف البعبع الإيرانى، وتريد حماية نفسها عبر تحويل الصراع إلى بلاد الشام، للخلاص من الجماعات الجهادية المؤرقة لهم ومن حزب الله معا». والواقع أن من يعرف إيران، يعرف أن الشعب الإيرانى لا يرى أن الصراع الحالى طائفى، بل سياسى. والإيرانيون العاديون لا يريدون التورط أساسا فى العالم العربى أو مشكلاته. وخلال حملة روحانى الانتخابية كان أحد الشعارات والهتافات الأكثر ترديدا من شباب حملته ومؤيديه: «لا غزة ولا لبنان.. حُبى كله لإيران». سيتولى روحانى السلطة رسميا مطلع أغسطس المقبل، ومن المؤكد أن مهمته ستكون الأصعب بعد الحكومات التى تولت خلال الحرب العراقية – الإيرانية. انتخاب روحانى كان يمكن أن يكون فرصة لتحسين العلاقات العربية - الإيرانية، والمصرية - الإيرانية، لكن سُحُبًا سوداء فوق سماء المنطقة تجعل هذا صعبا، رغم أن روحانى بديل مثالى للعرب عن أحمدى نجاد. روحانى يقف اليوم مثل بلاده، جغرافيا وسياسيا على أرض تموج بتناقضات يبدو من الصعب المواءمة بينها. هذا وقت خطر فى الشرق الأوسط.