تطرح الذكرى التاسعة والثلاثون لرحيل عبد الحليم حافظ (توفي في 30 مارس 1977) عدة أسئلة بالغة الأهمية حول هذا الفنان المدهش والأسرار التي صنعت نجوميته الطاغية. من أهم هذه الأسئلة: لماذا حقق عبد الحليم كل هذا الحضور طوال فترة حياته؟ وكيف لنا أن نفهم هذه الظاهرة العجيبة في حياتنا الفنية، رغم أن صوته لم يكن بالقوة التي تمتع بها مطربون آخرون عاصروه وحاولوا منافسته فأخفقوا؟ تعالوا أقص عليكم نبأ هذا الفنان المتفرد، لنوضح دور الظروف الاجتماعية والسياسية والفنية في تعزيز مكانته وتأكيد موهبته، ليصبح أشهر مطرب مصري وعربي في القرن العشرين. في عام 1951 استمع الجمهور للمرة الأولى إلى صوت عبد الحليم في الإذاعة المصرية، حيث شدا بأغنية (لقاء) وهي قصيدة من الشعر العمودي كتبها الشاعر الرائد صلاح عبد الصبور، ولحنها كمال الطويل. كان حليم آنذاك قد بلغ 22 عامًا (هو مولود في 21 يونيو 1929). لم تحقق الأغنية نجاحًا يذكر، لكن لا حليم ولا صلاح ولا الطويل شعروا باليأس، بل راح كل منهم يزيد من معارفه ويصقل موهبته بالكد والدراسة. وفي ظرف أعوام قليلة جدًّا استمع الناس إلى أغنيات لعبد الحليم أعجبتهم، لكنها لم تمنحه المقام المحمود الذي يرغب في الوصول إليه، من أهم هذه الأغنيات (يا تبر سايل بين شطين يا حلو يا اسمر/ ظالم/ يا مواعدني بكرة/ صافيني مرة)، فلما جاء عام 1954 فوجئ الجمهور بعبد الحليم يشدو بأغنيتين جديدتين لعبد الوهاب هما (توبة/ وأهواك)، فأقبل على سماعهما بآذان رحبة واهتمام كبير، ومع ذلك لم يصعد النجم الشاب إلى السماء كما كان يحلم إلا حين غنى (على قد الشوق اللي في عيوني يا جميل سلم) في عام 1955، فتلقاها المستمعون بشغف، ومن يومها وعبد الحليم يتبوأ عرش قلوب المصريين والعرب بجدارة وحتى رحيله في مستشفى بلندن. من المصادفات العجيبة أن نجومية حليم ترافقت تمامًا مع صعود نظام يوليو 1952، فقد تكاتف حليم والنظام بصورة مدهشة، لدرجة يمكن معها القول إنه لولا يوليو ما كان حليم قد علا وسما إلى هذه المكانة، ليس بسبب أغنياته الوطنية التي مجدت ثورة يوليو وزعيمها فحسب، وهي أغنيات صادقة وبديعة حقًّا، وإنما لظروف أخرى متنوعة سأشرحها توًّا. أنت تعلم أن عبد الناصر استجاب لمطلب عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين بأن جعل التعليم بالمجان، فالتحق بالمدارس الثانوية والجامعات آلاف الطلاب بدءًا من منتصف خمسينيات القرن الماضي، هؤلاء الطلاب هم الجمهور الأول والأساسي لعبد الحليم، خصوصًا طلاب القاهرة، لأن مطربنا لا يشدو إلا باللهجة القاهرية في المقام الأول. وأنت تعلم أيضًا أن الطلاب تتراوح أعمارهم عادة بين الخامسة عشرة والخامسة والعشرين، وهو السن التي يسبح فيها صاحبه/ صاحبته في عالم الخيال والرقة والرومانسية، من هنا حدث التواصل العجيب بين (مطرب العواطف)، وبين ألوف ثم ملايين الطلاب في القاهرة وبقية المدن العربية، وتمدد هذا التواصل خارج حدود الوطن، فبات حليم أنشودة الرومانسية لكل طالبة/ طالب يتلقى نصيبًا معقولا من التعليم الثانوي أو الجامعي. أضف إلى ذلك أن حماسة الطلاب لعبد الناصر وسياساته كان جارفًا، وأن خصامهم مع النظام الملكي كان عنيدًا، وقد أوتي عبد الحليم من الحظ الكثير، فقد ظهر على الملأ بعد انهيار النظام الملكي، ولم تسجل له أغنية واحدة يمتدح فيها فاروق أو أسرة محمد علي من قريب أو بعيد، كما أنه لم يظهر قط في أي فيلم من أفلامه (15 فيلمًا وثلث الفيلم) مرتديًا (الطربوش) الرمز الأشهر للعصر الملكي كله، بعكس جميع المطربين الذين سبقوه وزاملوه، من أول عبد الوهاب وفريد الأطرش ومحمد فوزي وإبراهيم حمودة وعبد الغني السيد ومحمد عبد المطلب وعبد العزيز محمود وكارم محمود وغيرهم، فكل هؤلاء (تلوثت) صورتهم بالطربوش أو غنوا في أفلامهم وصورة الملك فاروق تتألق في خلفية المشهد الذي يتصدرونه! لقد لاح عبد الحليم للجمهور نقيًّا خاليًا من جراثيم العهد الملكي، لا يسري في صوته أي ميكروب من زمن الباشوات، فأقبل عليه جمهور الثورة –الطلاب تحديدًا- بحماسة كبيرة وحب حقيقي. أما عن علاقته باللهجة القاهرية التي يتحدث بها المتعلمون فدعني أسألك.. هل يمكن أن يغني حليم (يا ولاد بلدنا يوم الخميس/ هاكتب كتابي وابقى عريس/ والدعوة عامة/ وهاتبقى لمة) التي شدا بها محمد فوزي؟ أو هل يمكن أن يشدو بأغنية مطلعها (يا شبشب الهنا/ يا ريتني كنت أنا) التي اشتهر بها عبد العزيز محمود الذي يمكن وصفه من باب الطرافة بمطرب الجماد، لأنه يغني للأشياء الجامدة مثل (يا تاكسي الغرام/ يا نجف بنور/ شباك حبيبي/ منديلي الحلو/ حب العزيز الربعة بقرش)؟ أو هل يمكن لحليم أن يهتف (تحت الصجر-وليس الشجر- يا وهيبة يا ما كلنا برتقان؟) كما يتحسر محمد رشدي، أو يرجو من أصدقائه طالبًا (يا رايحين الغورية هاتوا لحبيبي هدية) كما تمنى محمد قنديل؟ إن كل هذه الأغنيات الجميلة موجهة لشريحة اجتماعية غير طلابية، بل شريحة قوامها ابن البلد أو بنت البلد أو الفلاح الأصيل أو الفلاحة المليحة، لذا من الصعب أن نتخيل عبد الحليم –مطرب المتعلمين– يخوض غمار الأغنية الشعبية، صحيح أن الغيرة الفنية جعلته يشدو بأغنيات مثل (أنا كل ما اقول التوبة/ أدهم الشرقاوي/ سواح) إلا أن هذه الأغنيات لم تكن هي الأساس الذي يتكئ عليه مجمل تجربة عبد الحليم الفنية. المثير أن اللهجة القاهرية الطرية الناعمة كانت المعين الأول لصاحب (حبك نار)، كما أن الشعراء الذين كتبوا له استلهموا الأجواء الرومانسية التي تدغدغ مشاعر الطلاب وخيالاتهم، وسأذكرك ببعض نماذج من كلمات أغنياته مثل (بتلوموني ليه/ لو شفتم عينيه/ حلوين أد إيه.. الشعر الحرير ع الخدود يهفهف)، أو (أهواك وأتمنى لو انساك وانسى روحي وياك)، أو (أنا لك على طول خليك ليا)، (في يوم من الأيام)، (أول مرة تحب يا قلبي)، وغير ذلك عشرات من الأغنيات التي تضج بمشاعر مشبوبة وأحاسيس متقدة كلها تناسب المزاج العام للطالب الهيمان. نأتي إلى علاقته بالسينما، لنكتشف أن معظم الأفلام التي قام ببطولتها عبد الحليم لعب فيها دور طالب جامعة أو أنهى دراسته الجامعية باستثناء فيلم (دليلة 1956) الذي جسد فيه شخصية (كهربائي) ففشل الفيلم، ولم يحقق النجاح المأمول، الأمر الذي يؤكد أن فن حليم كان موجهًا لطلاب الجامعة بشكل رئيسي. تعال نسترجع أفلامه ونتذكر دوره في كل فيلم (لحن الوفاء/ أيامنا الحلوة 1955، طالب جامعة)، (ليالي الحب 1955، موظف متعلم)، (أيام وليالي 1955، طالب جامعة)، (موعد غرام 1956، متعلم عابث يقع في حب فاتن حمامة)، (بنات اليوم 1957، مهندس)، (الوسادة الخالية 1957، طالب)، (فتى أحلامي 1957، شاب مستهتر– لم ينجح الفيلم كثيرًا)، (شارع الحب 1958، طالب في معهد الموسيقى)، (حكاية حب 1959، مدرس موسيقى ولهان)، (البنات والصيف 1960 – ثلث فيلم فقط، لأن الفيلم يضم ثلاث حكايات متباينة بنجوم مختلفة – ظهر حليم بوصفه مهندسًا عاشقًا)، (يوم من عمري 1961، صحفي عاشق)، (الخطايا 1962، طالب)، (معبودة الجماهير 1965، ممثل ولهان)، أما آخر أفلامه (أبي فوق الشجرة) الذي عرض للمرة الأولى في 17 فبراير 1969، فقد ظهر فيه عبد الحليم مجسدًا شخصية طالب جامعة بالرغم من أنه كان قد بلغ الأربعين عامًا. لاحظ أن زملاءه ومنافسيه في عالم الغناء كانوا يطلون على الناس من شاشة السينما في أدوار شعبية، فعبد العزيز محمود سائق تاكسي، ومحمد فوزي صياد سمك أو عجلاتي، وكارم محمود صبي بقال إلى آخره.. إلى آخره! أظنك تتفق معي على أنه لا يمكن استيعاب ظاهرة عبد الحليم دون أن نعرج قليلا على إنجازه المدهش في مجال الأغنية الوطنية، فالرجل كان ابنًا بارًّا لثورة يوليو، وقد ربطته بقائد الثورة وأسرته أواصر محبة واقتناع، لذا لا عجب في أن يصدح صوت حليم بأجمل الأغنيات التي صاحبت صعود نظام يوليو وانتصاراته -(صورة) أشهر وأفضل تلك الأغنيات- ولا غرابة في أن ينشرخ إحساسه حين يتلقى النظام هزيمة قاسية في عام 1967 (عدى النهار/ سكت الكلام والبندقية اتكلمت/ نموذجان مبهران). إن إيمان عبد الحليم بيوليو وناصر يفسر لك إلى حد كبير كيف أنه لم يذكر اسم الرئيس الأسبق أنور السادات أبدًا في أية أغنية، برغم أنه عاش سبع سنوات كاملة في ظلال عهد السادات، وحين انتصر الشعب المصري في معركة أكتوبر 1973 المجيدة وأعاد السادات افتتاح قناة السويس اكتفى عبد الحليم بأن امتدحه في أغنية شاديًا (قالها الزعيم من غير ما يحلف/ عمر الزعيم ما يقول ويخلف). اللافت للانتباه أن حليم بدأ مشواره بالغناء مع قصيدة فصحى لشاعر رائد هو صلاح عبد الصبور، كما فات عليك، وأنهى هذا المشوار بقصيدة (قارئة الفنجان) لشاعر شهير هو نزار قباني التي ترنم بها عام 1976، وما بين التاريخين عشقه الشعب كله، وإن كان الطلاب قد وضعوه في أكرم ركن في قلوبهم، أما الطالبات، فقد كان معشوقهن الأول، لذا لم يفاجأ كثيرون حين هرعت طالبة في الثانوي إلى بيته عندما عرفت خبر موته، وألقت بنفسها من العمارة التي يقطن بها في الزمالك تاركة رسالة دامعة لأسرتها ملخصها (مات حبيبي.. كيف يمكن أن تحلو الحياة بدونه)؟! ترى... هل أدركت الآن سر عبد الحليم حافظ؟