لا أظن أن أحدًا وصف سحر القُبلة بين العاشقين كما وصفه أمير الشعراء أحمد شوقى فى مسرحيته المدهشة «مجنون ليلى»، تعال نطالع كيف اصطاد هذا الشاعر الفذ المشاعر الدقيقة للعشاق حين يحترقون بالقُبل: فكم قبلة يا ليل فى ميعة الصبا وقبل الهوى ليست بذات معانِ ولم نك ندرى يوم ذاك ما الهوى ولا ما يعود القلب من خفقان منى النفس ليلى قربى فاك من فمى كما لف منقاريهما غردان نذوق قبلة لا يعرف البؤس بعدها ولا السقم روحانا ولا الجسدان فكل نعيم فى الحياة وغبطة على شفتينا حين يلتقيان ويخفق صدرانا خفوقا كأنما مع القلب قلب فى الجوانح ثانى هذا عن الشعر الفصيح الرائق، فكيف تعاملت الأغنية العربية مع القبلة؟ وكيف تلقى جمهور الذواقة هذه الأغنيات التى مسّت قدس أقداس العلاقة الغرامية؟ حسب علمى، فإن أغنية سيد درويش «على أد الليل ما يطوّل» التى شاركته فى غنائها المطربة حياة صبرى، هى أول أغنية تتعرض للقبلة بوضوح، وبقدر قليل من الابتذال، لأنه من المعروف أن التغزل فى المرأة ينقسم إلى ثلاثة فروع: غزل عفيف لا يقترب من الجسد، بل يتعفف عن التعامل معه بوصفه مفجّر الذنوب والخطايا، كما يشاع خطأ! وغزل صريح يعترف بأن الجسد هو بيت اللذة، وموطن الإنجاب والتكاثر، وأخيرًا غزل مبتذل يتعرض لمفاتن المرأة وتأثيرها بتعبيرات فجة ومشاعر رخيصة. شفتى بتاكلنى! فى عام 1920 شدا سيد درويش بأغنية «على أد الليل ما يطوّل» ضمن مسرحية «شهرزاد» التى تبدأ بنجوى يطلقها العاشق: «على أد الليل ما يطوّل/ مسترضى سهرى ونوحى/ فى حبك يا اللى أول/ ما اشوفك تترد روحى/ سنين وأيام هايم بيكى/ بزمارتى أصحيكى/ طول ما أنا وانت فى الدنيا دى/ طز فى أهلى وف اجدادى/ واروح على فين وانت قصادى»، ثم ترد الحبيبة سائلة بتخوف: «آه.. يا ترى يا رب هو واللا لأ.. حبوبى»، فيرد الولهان: «يا عين الحبوب من جوه/ يا سبب وعدى ومكتوبى.. يا كتاكيتها»، فتلاغيه: «يا ننونسو»، فيجن ويهتف: «يا قطاقيطها»، فتداعبه بحنان: «يا حنتوسو»، فيعلن طامعًا فى وعد: «أنا م النجمة فى استنظارك»، فتسعفه وتطمئنه: «أدينى نازلة»، فينشرح صدره ويصدح: «أما نهارك أبيض من طبق القشطة». ثم لا تقوى المعشوقة على مقاومة الغرام، فتخاطب الحبيب بتوجس: «اوعى يكون حد شايف طيفى»، فيرد متلهفًا ومطمئنًا: «حطى فى قلبك بطيخة صيفى»، ثم يفيض رغبة ويتوسل: «شفتى بتاكلنى أنا فى عرضك/ خليها تسلم على خدك». فتتمايل الحبيبة بغنج وتتعجب: «يوه.. يا دين النبى.. تنك سايح/ ما شبعتش من ليلة امبارح»، هنا يستعيد العاشق أجواء ما حدث ليلة أمس راجيًا بلوعة: «ما تفكرنيش».. ثم يتذكر العاشقان معًا سحر ما حدث ويترنمان هكذا: «أما دى حقة/ كانت ليلة فى غاية الرقة». هذا هو الجزء الأول من الأغنية، وأظنك لاحظت بعض الصياغات الفجة فى كلمات هذا الدويتو الذى كتبه بديع خيرى، وهو أمر مفهوم إذا علمنا أن مشاعر الشعوب تصاب بدرجة من الانحطاط فى أثناء الحروب والثورات وبعدهما، ومصر فى عام 1920 كانت خارجة توًا من الحرب العالمية الأولى «1914/ 1918» وثورة 1919، ومع ذلك لم تصل هذه الفجاجة فى ذلك الدويتو إلى مستوى غير لائق، بل يمكن القول إن التعبيرات والصياغات كانت مقبولة فى ظل السياق التاريخى الذى ظهر فيه هذا الدويتو الجميل. بقى أن تعرف أن المطرب كارم محمود يغنيه بمشاركة المطربة أحلام، لكنهما يبدلان كل الكلمات الصريحة، فمثلا يقول سيد درويش: «شفتى بتاكلنى» فيحولها كارم إلى «مهجتى فى إيديك»، ويتوسل درويش: «ادينى بوسة، وكمان بوسة»، فتصبح «قربى منى، كمان شوية». وقد تمت هذه التعديلات فى الخمسينيات بعد أن تغير الذوق العام، واستقر المجتمع وانتشر الراديو وجهاز التسجيل، فبات من الصعب أن ينصت الناس إلى مفردات غزل بهذه الصراحة، كما تخيل الذين قرروا تغيير النص الأصلى للأغنية! القبلة.. القبلة.. القبلة! فى فيلم «ممنوع الحب/ 1942» يشدو عبدالوهاب طالبًا: «بلاش تبوسنى فى عينيه/ دى البوسة فى العين تفرّق»، لكن عبدالوهاب هذا كان قد صدح بقصيدة شوقى الخالدة «يا جارة الوادى» قبل هذا التاريخ بأربعة عشر عامًا، حيث يقول فيها برقة متناهية: «ودخلت فى ليلين فرعك والدجى/ ولثمت كالصبح المنوّر فاك/ وتعطلت لغة الكلام/ وخاطبت عينىّ فى لغة الهوى عيناك». هكذا إذن يعود شوقى ليحتفى بالقبلة، بلغته الشعرية الصافية، فيلتقط عبدالوهاب المعنى، ويصدع بأدائه وألحانه إلى ذرى غير مسبوقة فى التعبير الغنائى! لكن أم كلثوم تفاجئنا بأغنية لا شبيه لها فى تاريخ الغناء العربى، تلك التى شدت بها فى فيلم «سلامة/ 1945»، وأعنى أغنية «الفوازير» التى كتب كلماتها بيرم التونسى، ولحنها زكريا أحمد، حيث تدور مباراة غرامية بين السائل الكهل وقبيلته، وبين المطربة الرائعة، وبعد أن يستفسر منها عما تقوله «العين للعين»، وهل هناك ذنوب «للى يوافى المحبوب»، يأتى إلى السؤال الحرج والحاسم، إذ يسأل: «قول لى ولا تخشاش ملام/ حلال القبلة واللا حرام؟»، فتفرح أم كلثوم بالسؤال وتعلن بحسم لا يخلو من دلال: «القبلة.. القبلة.. القبلة/ القبلة إن كانت للملهوف/ اللى على ورد الخد يطوف/ ياخدها بدال الواحدة ألوف/ ولا يسمع للناس كلام/ ولا يخشى للناس ملام»، فيهلل رجال القبيلة ويكررون: «ولا يسمع للناس كلام»، وتردد النساء بسعادة: «ولا يخشى للناس ملام»! لعلك لاحظت الرقة فى الكلمات، والرشاقة فى اللحن، والسحر فى الأداء، والجرأة فى الطرح! بوسة ونغمض! لعبد الحليم أغنية جميلة اسمها «أول مرة تحب يا قلبى» شدا بها فى فيلم «الوسادة الخالية/ 1958» يستعرض من خلالها القبلة وسحرها، ولكن من طرف خفى، يلمّح ولا يصرّح، ويبدو أن أجواء نهاية الخمسينيات كانت لا تسمح بالتوغل كثيرًا فى البوح بمشاعر الغرام الملتهبة، أو أن الرومانسية التى التصقت بحليم لا تسمح له بالإفصاح أكثر من ذلك. يقول العندليب الأسمر فى المقطع الأخير من هذه الأغنية التى كتبها إسماعيل الحبروك، ولحنها منير مراد: «قلبى يعيد لى كل كلامك/ كلمة بكلمة يعيدها عليا/ لسه شفايفى شايلة سلامك/ شايلة أمارة حبك ليا»، والأمارة هنا هى القبلة بكل تأكيد! أما شاعرنا الكبير المتميز صلاح جاهين فأعلنها صراحة على لسان سعاد حسنى فى أغنية «بمبى» التى لحنها كمال الطويل، وأضاءت فيلم «أميرة حبى أنا/ 1974»، هذه الأغنية بالغة التفرد، إذ تمزج رقة الإحساس بعطايا الجسد فى سبيكة جميلة ومؤثرة، وقد زادتها سعاد روعة وجمالًا وهى تحلم قائلة: «بيت صغنن فوق جزيرة لوحدنا/ والعنب طالع وريحة البحر هالّة/ حلم واللا حقيقة سيان عندنا/ المهم نكون سوا وكله على الله/ بوسة ونغمض ويا اللا/ نلقى حتى الضلمة بمبى/ الحياة بقى لونها بمبى». هذه بعض الأغنيات التى احتفلت بالقبلة فاقتربت من قدس أقداس العلاقة الغرامية، معظمها يخلط الرقة بالاحتشام، والقليل يفصح ويفضح!