انتهت زيارة وزير الخارجية الأمريكي إلى موسكو بتصريحات ملتبسة لم تخرج عن إطار كل التصريحات السابقة التي صدرت عن موسكووواشنطن بشأن الأزمة السورية، ومكافحة الإرهاب. من الواضح أن الهدف الأول من هذه الزيارة كان اجتذاب موسكو للمشاركة في اللقاء الثالث لمجموعة "دعم سوريا" في نيويورك في ١٨ ديسمبر الحالي. وهو اللقاء الثالث الذي يأتي بعد لقائين تم عقدهما في العاصمة النمساوية فيينا خلال شهر نوفمبر الماضي. لا أحد يعرف بالضبط لماذا تم نقل لقاءات فيينا إلى واشنطن. وكانت موسكو طوال الأسبوعين الأخيرين تدلي بتصريحات مختلفة حول أنها لن تشارك في لقاء نيويورك، وأن الأوضاع ليست بحاجة إلى لقاءات جديدة قبل تنفيذ التوصيات التي خرج بها المشاركون في اجتماع فيينا الثاني، وعلى رأسها إعداد قوائم المنظمات الإرهابية. غير أن الخلافات تدور حول جملة ضخمة من المشاكل والملفات، ولا تقتصر على قوائم المنظمات الإرهابية. فهناك أصلا خلافات على مفهوم الإرهاب، وأخرى على علاقات بعض الدول بالمنظمات الإرهابية والمتطرفة والمسلحة، وثالثة على التنسيق بشأن الضربات العسكرية التي يوجهها كل من التحالف الأمريكي وروسيا في سوريا، ورابعة حول مصير بشار الأسد، وخامسة حول دور إيران في الأزمة السورية، وسادسة حول دور روسيا نفسها، سواء في سوريا أو في الشرق الأوسط. بعد لقاء كيري مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ووزير الخارجية سيرجي لافروف، أعلن الأخير أنه قد تم الاتفاق بالفعل على عقد لقاء جديد لمجموعة "دعم سوريا" على مستوى وزراء الخارجية بنيويورك في ١٨ ديسمبر، ومواصلة العمل مع واشنطن لتحديد قائمة المعارضة المعتدلة وقائمة الإرهابيين. ما يعني أن الطرفين توصلا إلى تفاهمات معينة بهذا الشأن. ومع ذلك فالتصريحات شئ، والواقع شئ آخر تماما، لأن لقاء كيري مع بوتين ولافروف الأخير في سوتشي أسفر عن تصريحات متفائلة وصلت إلى ما يشبه الاتفاق التام بين موسكووواشنطن على كل شئ. واتضح في ما بعد أن ذلك لم يكن صحيحا. وبعدها بدأ التدخل العسكري الروسي في سوريا، ثم إسقاط سلاح الجو التركي للقاذفة الروسية، وظهور الناتو في المشهد السوري، وأحداث أخرى كثيرة. لقد نجحت الولاياتالمتحدة في نقل لقاءات مجموعة "دعم سوريا" من فيينا إلى نيويورك. ما يعني أن واشنطن توفر الساحة "الملائمة" للمفاوضات حول الأزمة السورية. وبالتالي، كان من الضروري مشاركة روسيا في لقاء نيويورك الأول (أو اللقاء الثالث بعد اللقائين اللذين عقدا في فيينا)، خاصة وأن اللقاء على مستوى وزراء الخارجية. وهذا الأمر مهم مرحليا بالنسبة للولايات المتحدة من حيث الشكل لا المضمون. كما أن لقاء نيويورك مهم أيضا بالنسبة لروسيا التي ليس في مصلحتها أن تُعقَد لقاءات حول سوريا دون مشاركتها بصرف النظر عن مستوى المشاركة، ولكي لا يتم تهميشها في ما بعد، وهي الدولة التي لها وجود عسكري على الأرض في سوريا. وفي نهاية المطاف حققت واشنطن هدفها بإقناع موسكو بالحضور، بينما أكدت الأخيرة أن كل شئ على ما يرام وقد تم الاتفاق على تقديم مشروع قرار بشأن سوريا إلى مجلس الأمن بناء على بنود اتفاق فيينا. وإذا تحرينا الدقة، فقد أعرب لافروف عن "أمله بأن ينتج عن لقاء نيويورك التوصل لمشروع قرار يقدم لاحقا إلى مجلس الأمن". لافروف لم يقدم أي جديد في تصريحاته بشأن مكافحة الإرهاب، إذ قال: إن "المحادثات مع كيري كانت ملموسة وموضوعية، وأن موسكووواشنطن أكدتا إصرارهما على القضاء على الإرهاب". أي أن هناك إصرارا من الطرفين على مكافحة الإرهاب، وهو ما سبق وأن أعلنا عنه في عشرات التصريحات السابقة، ومع ذلك ظلت الخلافات حول مكافحة الإرهاب قائمة. ما يعني أن الخلافات ليست على الإصرار على مكافحة الإرهاب، وإنما على تفاصيل أكثر أهمية تخص كلا من الدولتين الكبيرتين اللتين تمتلكان مصالح وملفات متشعبة ومتشابكة. الأمر الثاني، أن لافروف اعتبر أن لقاء المعارضين السوريين في الرياض ما هو إلا خطوة في عملية تشكيل قائمة موحدة للمعارضة للمشاركة في المفاوضات مع الحكومة السورية. ومن الواضح أن كيري قدَّم توضحات معينة مرفقة، ربما، بتبريرات أو باتفاقات خاصة مع لافروف بشأن لقاء المعارضة السورية في الرياض، لأن موسكو كانت غير راضية عن هذا اللقاء واعتبرته شكلا من أشكال الالتفاف على جهودها. الأمر الثالث، هو أن لافروف قال إن كل الأطراف تعتبر تنظيم "داعش" و"جبهة النصرة" منظمات إرهابية ولا يمكنها المشاركة في المباحثات حول سوريا، فيما أوضح أن روسيا تنتظر معلومات أكثر دقة حول مبادرة الرياض لتشكيل تحالف جديد ضد الإرهاب وحول اجتماع باريس. هذا التصريح يعيدنا إلى أحد المربعات الأولي بشأن قوائم المعارضة وتحديد المنظمات الإرهابية. ولكن عبارة "كل الأطراف تعتبر...." تبدو مفرطة في التفاؤل، خاصة وأن كيري لم يتحدث في هذا الأمر. وبالتالي، فعن أي أطراف يتحدث لافروف بالضبط؟ الأمر الرابع، هو تأكيد لافروف على أن موسكووواشنطن اتفقتا على الخطوات التالية التي ستجعل مهمة مكافحة الإرهاب أكثر تنسيقا. ما يعني أن الطرفين لم يتحركا إطلاقا على هذا المسار. فموسكو تحاول أن تعطي انطباعا بأن هناك تعاونا مع واشنطن، وبقية دول التحالف، في مكافحة الإرهاب في سوريا، لكن واشنطن تصر على أن هناك تنسيقا فقط في ضمان أمن التحليقات الجوية ولا يوجد أي تعاون آخر من أي نوع. وقد حدد كيري هذه النقطة عندما قال "تم التأكيد على الاتفاقات، التي تم التوصل إليها بين العسكريين الروس والأمريكيين، المتعلقة بقوات التحالف التي تقودها الولاياتالمتحدة. كما تم، من الناحية العملية، الاتفاق على بعض الخطوات، التي ستجعل من العمل أكثر تنسيقا وفاعلية". وزير الخارجية الأمريكي جون كيري كان أكثر تحديدا في تصريحاته. إذ قال إن موسكووواشنطن "تقاربتا" في المواقف حول القضايا المعقدة في سورية وكيفية التعامل معها. وأوضح "فعلا، لقد توصلنا إلى بعض الاتفاقات وتحدثنا عن صعوبة تصنيف الجماعات الإرهابية، لكنني لا أستطيع الآن التحدث عما اتفقنا عليه على أساس ثنائي لأنه وكما قال سيرجي لافروف، فعلى مجموعة دعم سوريا بأكملها المشاركة في هذا النقاش. ومن المهم مساهمة الجميع في الحلول والنتائج. لكننا قربنا المواقف حول تلك الصعوبات وكيفية التعامل معها". كيري قال أيضًا: إن "الطرفين تبادلا المعلومات حول مواقع إجراء العمليات ضد الإرهابيين في سوريا"، ولكنه أعقب ذلك بالموقف الواضح لواشنطن بأنه "وضَّح الموقف الأمريكي حول عدم إمكانية المحافظة على بشار الأسد، ولكن الولاياتالمتحدة والشركاء لا يسعون في الوقت نفسه إلى تغيير النظام في سوريا حاليا". وشدد على ضرورة تفعيل التسوية السياسية في سوريا، إذ قال "لم نركز خلال المباحثات على خلافاتنا، وخاصة مصير الأسد، بل ركزنا على طرق التقدم في التسوية السياسية بسوريا"، كل ذلك يمكن فهمه في إطار المساعي "لتفعيل التسوية" و"عدم التركيز على الخلافات" على الرغم من وجودها. والسؤال هنا: إلى أي مدى يمكن أن تعوق هذه الخلافات كافة التقاربات الأخرى؟! فكيري أظهر إصرار بلاده في ما يتعلق بمصير الأسد، حيث قال موضحا "لقد أعلنا أننا لا نعتبر أن الأسد يملك إمكانية ليكون زعيما لسوريا في المستقبل. لكن اليوم ركزنا اهتمامنا ليس على الاختلافات في وجهات نظرنا، وليس على ما يجب فعله فوريا بحق الأسد، بل ركزنا على العملية السياسية التي سيقوم السوريون بأنفسهم في إطارها باتخاذ قرار حول مصير بلادهم". وهنا يتكرر السؤال: ما هو فهم كل من موسكووواشنطن لعبارة "سيقوم السوريون بأنفسهم باتخاذ قرار حول مصير بلادهم"؟! ففي الحقيقة، إذا وضعنا هذه العبارة إلاى جانب عبارات أخري من قبيل "التسوية السياسية" و"المعارضة المعتدلة" و"الجيش الحر" و"دعم المعارضة المسلحة"، سنكتشف أن رؤى موسكووواشنطن مختلفة تماما بشأن مصير الأسد. في نهاية المطاف، لم ينس كيري أن يستعرض سياسة "العصا والجزرة" عندما تحدث عن الأزمة الأوكرانية، مؤكدا أنه "كلما تم الإسراع في تنفيذ اتفاقيات مينسك، يتم الإسراع في رفع العقوبات عن روسيا". ومع ذلك فليس هناك أي جديد في موضوع أوكرانيا، لأن كيري كرر تصريحات أمريكية سابقة، وهي نفس تصريحات كل الدول الأوروبية تقريبا. كل ما في الأمر أن الأمور تتجه بدرجات متفاوتة للربط بين الأزمتين السورية والأوكرانية.