لم تتوقف الولاياتالمتحدة والدول الأوروبية كثيرًا أمام تدخل روسيا العسكري في سوريا، بل جاءت العديد من ردود الأفعال بعد الإعلان الرسمي عن الوجود العسكري الفعلي بأحجام كبيرة ليعكس موقفا مرنا وخبيثا في آن واحد، غير أن الأوضاع تزداد تعقيدا وتشعبا بشكل عام، وجنحت إلى انعطافة حادة بإسقاط سلاح الجو التركي قاذفة روسية وقتل قائدها، إضافة إلى عسكري روسي آخر، وكان حلف الناتو، الذي يضم تركيا في عضويته، يمعن في الإعلانات المتواصلة بأنه لن يتدخل في الأزمة السورية، ولكن يبدو أن الأمر أكثر تعقيدا وصعوبة من ما يتم إعلانه، سواء من جانب روسيا أو الولاياتالمتحدة أو حلف الناتو الذي تقوده عمليا واشنطن. في الحقيقة، روسيا صادقة عندما تعلن أنها تدخلت في سوريا لمكافحة الإرهاب، لكنها تدخلت أيضا للحفاظ على وجودها في المياه الدافئة، ولحجز بطاقتها للمشاركة في أي مفاوضات لاحقة بخصوص سوريا حتى لا يتكرر إبعادها كما حدث سابقا في حالتي العراق وليبيا، ومن أجل أن تحافظ ولو على الحد الأدني من نفوذها في مجال الطاقة، وإذا لاحظنا، فروسيا التي كانت تشكو دوما من زحف الناتو شرقا نحو حدودها وحدود حلفائها، هي التي زحفت هذه المرة إلى الحدود المباشرة للحلف، ووضعت أحدث منظومات الدقاع الجوي الصاروخية "إس – 400"، إضافة إلى وجود الطراد الصاروخي "موسكو" الذي يحمل على متنه صواريخ ذات قدرات عالية تشبه قدرات منظومات "إس – 300" الصاروخية والقادرة على تغطية تركيا بالكامل في حال وقوع أي احتكاك عسكري. أي أن روسيا بدأت في التحرك نحو حدود الناتو. إن وجود الأسد في السلطة كان أمرا مهما لكي تتدخل روسيا قانونيا في سوريا، وإذا كان الأسد يوهم نفسه بأن موسكو تدخلت من أجله، وكما يحاول أن يؤكد إعلام نظام دمشق وحلفائه في طهران، فإن موسكو نفسها أكدت أكثر من مرة أنه لا يهمها من سيأتي إلى السلطة في سوريا، وأنها لم تتدخل من أجل إنقاذ الأسد، ومع ذلك فوجود الأسد ونظامه على المدى القريب جدا، ضروري لموسكو، وفي حال تم الاتفاق بين روسياوالولاياتالمتحدة تحديدا بشأن تسوية سياسية تلبي مصالح الطرفين، فمن الممكن أن يتم التوصل إلى اتفاق بشأن مصير الأسد. وغالبا، سيكون برحيله عن السلطة. وبالتالي، فالأزمة أكبر من الأسد ونظامه. وكل ما في الأمر أنه يختبئ وراء ظهر موسكو، لأنه يعلم جيدا أن لها مصالح وأن وجوده ضروري لها على المدى القصير للغاية. ومهمة الأسد ونظامه هو إطالة اهتمام موسكو بوجوده ولو حتى على المدى المتوسط. لقد أعلن الناتو والولاياتالمتحدة أن تركيا لم ترتكب أي خطأ بحق روسيا، لأن القاذفة الروسية اخترقت المجال الجوي التركي، الذي يعتبر جزءا من المجال الجوي لحلف الناتو. وأبدى الحلف استعداده للدفاع عن تركيا، وفق مواثيق الناتو، في حال تعرضها لأي عدوان روسي، وهو الأمر الذي لم تتطرق إليه موسكو إطلاقا، بل وأعلنت أن ردها على أنقرة لن يكون عسكريا، غير أن الهقدة ليست هنا بالضبط، وإنما في كيفية الإبقاء على الوجود الروسي في سوريا لأطول فترة ممكنة، مع اتخاذ كل الإرحراءات اللازمة لتحصين دول الناتو، وضم دول جديدة، وتسخين الأزمة الأوكرانية بالقدر الذي يحافظ على تأججها المستمر كجبهة ثانية يمكن فتحها لتشتيت القدرات الروسية. من هنا تحديدا تلتزم واشنطن بسياسة "الحكيم"، إد دعا الرئيس الأمريكي، خلال لقائه نظيره التركي رجب طيب أردوغان في باريس، أنقرةوموسكو إلى التركيز على محاربة "العدو المشترك" المتمثل في "داعش"، مؤكدا في نفس الوقت دعم الولاياتالمتحدة لحق تركيا في الدفاع عن نفسها ومجالها الجوي، في هذا اللقاء، وضع أوباما الكثير من النقاط على الحروف بشأن الملف السوري، والوجود الروسي في سوريا، حيث شدد على 3 نقاط جوهرية: - لا تزال واشنطنوموسكو على خلاف حول مصير الأسد في الحكومة السورية المستقبلية. - من المستحيل أن يتمكن الأسد من توحيد سوريا. - إن رحيل الأسد عن السلطة هو جزء من عملية الانتقال السياسي. بذلك يجب أن لا يكون هناك أي وهم لدى روسيا بشأن الموقف الواضح لواشنطن بشأن الملف السوري ومصير الأسد معا. لكن الأهم هنا، هو إصرار الولاياتالمتحدة على المسارات الأوسع التي تتعلق بصراعات أكبر بين موسكووواشنطن، ففي مؤتمره الصحفي في باريس، قال أوباما إنه "لا يتوقع تغيرا سريعا في استراتيجية نظيره الروسي فلاديمير بوتين في سوريا، لكنه يعتقد أن موسكو ربما تصطف في نهاية المطاف إلى جانب التحالف الذي تقوده الولاياتالمتحدة ضد متشددي تنظيم داعش"، هذا التصريح يحمل رسالة مهمة إلى الكرملين، يتلخص جوهرها في أن واشنطن هي التي تقود لا روسيا. وأن موسكو ستعود إلى مسارات واشنطن في نهاية المطاف. ومن أجل التأكيد، استخدم أوباما مقاربة تاريخية خطيرة. إذ قال "أعتقد أن السيد بوتين يدرك أنه في ضوء كون أفغانستان لا تزال حاضرة في ذهنه، فإن الخوض في مستنقع صراع أهلي غير حاسم ليس النتيجة التي يتطلع إليها". بهذا التصريح الأخير، أوضح أوباما لبوتين جزءا من تداعيات الوجود الروسي في سوريا. بل يمكن الخروج بانطباع خطير حول أن أوباما يهدد بوتين بأفغانستان ثانية في سوريا. وربما يكون إسقاط القاذفة الروسية بأسلحة دولة عضو في حلف الناتو، بداية حلقة جديدة إضافية. ولكي نعرف إلى أين وصلت الأمور بالضبط في مجلس الأمن الدولي، بين موسكووواشنطن، بشأن الأزمة السورية، فقد أكدت المندوبة الأمريكية الدائمة لدى الأممالمتحدة سامانثا باور، في معرض التعليق على الأزمة السورية، على "ضرورة تخلي موسكووطهران عن دعم فكرة مشاركة بشار الأسد في عملية التحول السياسي في سوريا". واعتبرت أن "موسكووطهران لن تتمكنا من تحقيق أهدافهما في ما يتعلق بمحاربة داعش ما دام الأسد باقيا في السلطة".