في تصريح مثير، ضمن التصريحات الساخنة التي أطلقها الرئيس الروسي في اتجاه تركيا، أن القيادة التركية تمارس سياسة متعمدة لنشر التطرف الإسلامي في بلادها. هذا التصريح جاء ضمن الدفعة الثانية من التصريحات الحادة التي انطلقت من موسكو على لسان كل المستويات، بداية من الرئيس، وانتهاء بوزير الخارجية، مرورًا برئيس الحكومة ووزير الدفاع ونائب رئيس مجلس النواب، إضافة إلى البيانات الغاضبة بسبب إسقاط سلاح الجو التركي (مقاتلة – قاذفة روسية) من طراز (سو -24)، وقتل قائدها، إضافة إلى إصابة مروحية عسكرية وقتل أحد عناصر قوات مشاة البحرية الروسية. وإذا تذكرنا دفعة التصريحات الأولى التي صدرت عن بوتين في نفس يوم الثلاثاء الذي سقطت فيه الطائرة الروسية بصاروخ تركي، سنجد أن الرئيس الروسي أطلق 7 اتهامات وتهديدات لتركيا: -وصف الحادثة بأنها "ضربة في الظهر وجهها أعوان الإرهابيين". -ستكون للحادثة عواقب وخيمة على العلاقات بين موسكووأنقرة. -لن نتسامح مع جرائم مثل إسقاط مقاتلتنا. -لماذا توجهت أنقرة إلى حلف الناتو، وهل تريد تسخير الحلف لخدمة داعش؟ -الإرهابيون يحصلون على تغذية مالية من تركيا من خلال إمدادات النفط، حيث تمر كميات كبيرة من النفط ومنتجاته إلى تركيا من الأراضي التي يسيطر عليها التنظيم. -تركيا مصدر هام لتغذية العصابات الإرهابية بالأموال. -سبب وقاحة الإرهابيين أنهم تحت حماية دول، ولدى داعش أموال طائلة، والحديث يدور عن عشرات ومئات الملايين، وربما مليارات الدولارات الواردة من تجارة النفط، وبالإضافة إلى أن ثمة دولا تقدم لهم حماية مسلحة. أما الإجراءات السريعة التي اتخذتها موسكو على الفور، فكانت: -إلغاء زيارة وزير الخارجية سيرجي لافروف التي كان من المقرر القيام بها الأربعاء 25 نوفمبر الحالي للمشاركة في الاجتماع الخامس للجنة الروسية - التركية المشتركة للتخطيط الاستراتيجي في إسطنبول. -إصدار توصية من وزارة الخارجية بعدم التوجه إلى تركيا، للسياحة أو لأي أغراض أخرى، باعتبار أن مستوى الخطر الإرهابي فيها أصبح متناميًا. -إعلان موسكو قطع جميع اتصالاتها العسكرية مع أنقرة. -التحذير من أن الطائرات القاذفة ستقوم بجميع طلعاتها فقط تحت حماية المقاتلات. - تموضع الطراد "موسكو" المزود بمنظومة صواريخ "فورت" المضادة للطائرات (مثيل لمنظومة "إس - 300" الشهيرة) على ساحل اللاذقية. -التحذير من أن "جميع الأهداف التي ستمثل خطرًا محتملًا علينا سيتم تدميرها". كما ظهر رئيس الحكومة الروسية دميتري ميدفيديف ليعلن أن تركيا ألحقت أضرارًا يصعب إصلاحها بالعلاقات بينها وبين روسيا، مشددًا على أن "الأعمال الإجرامية" للسلطات التركية التي أسقطت الطائرة الروسية أدت إلى ثلاث عواقب: - أولًا، سبّب هذا العمل الإجرامي توترًا للعلاقات بين روسيا وحلف الناتو. -ثانيًا، كشف هذا العمل الإجرامي أن تركيا توفر الحماية لمسلحي "داعش". -ثالثًا، تم نسف العلاقات بين روسياوتركيا، ما سيؤدي إلى أضرار من الصعب إصلاحها في العلاقات الثنائية بين روسياوتركيا، منها احتمال التخلي عن عدد كامل من المشاريع المشتركة الهامة وفقدان الشركات التركية مواقعها في سوق روسيا". هذه هي حصيلة تصريحات المسؤولين الروس طوال اليومين الأخيرين، ومن الواضح أنها موجهة للرأي العام الروسي في الداخل، أكثر منها إلى تركيا أو الولاياتالمتحدة أو أوروبا أو حلف الناتو، لأن روسيا ببساطة لا تستطيع أن تفعل أكثر من ذلك، على الأقل في الوقت الراهن، ولو كان أردوغان يشك بنسبة واحد بالمائة في ذلك، لفكر مائة مرة قبل أن يقدم على هذه الخطوة. غير أن الملفت، أن الرئيس الروسي تذكر فجأة أن القيادة التركية تمارس نشر التطرف ليس فقط في الداخل التركي، بل وأيضًا في الدول المجاورة، وتدعم داعش، حيث قال: إن "المشكلة لا تكمن في المأساة التي وقعت، بل هي أعمق من ذلك بكثير، فنحن شاهدون، ولسنا بمفردنا، بل العالم بأسره شاهد على ذلك، فالقيادة التركية الحالية، تنتهج طوال سنوات، وبشكل هادف سياسة داخلية لأسلمة بلادها، ودعم التيار الإسلامي المتطرف فيها - أي أن بوتين ببساطة لم يكن يرى ذلك قبل إسقاط المقاتلة الروسية، ولكن الحقيقة انكشفت فجأة أمام عينيه بعد الحادث، وهو الأمر الذي يثير الكثير من الدهشة والتساؤلات. الأمر الثاني، هو أن سفير روسيا لدى فرنسا ألكسندر أورلوف، أعلن عقب وقوع الحادث بيوم واحد فقط، وعلى خلفية كل هذه التصريحات والتهديدات أن بلاده على استعداد لإنشاء هيئة أركان مشتركة لمحاربة داعش، تعمل من خلالها موسكو مع فرنساوالولاياتالمتحدة وحتى تركيا. هذا التصريح نشر في صحيفة "تليجراف" البريطانية، كالآتي: "نحن مستعدون للتخطيط لضربات ضد مواقع داعش معًا، وإنشاء هيئة للأركان المشتركة مع فرنساوالولاياتالمتحدة، وكل الدول التي تريد أن تكون في هذا الائتلاف". وإمعانًا في التوضيح، قال السفير الروسي في باريس: "إذا أرادت تركيا أن تكون ضمن الائتلاف، فأهلًا بها". وفي نفس الوقت، أعلن وزير الدفاع سيرجي شويجو أن موسكو قررت نشر منظومات "إس – 400" الصاروخية في قاعدة حميميم الروسية في سوريا، وبعد قليل أعلن الكرملين أن بوتين صادق على مرسوم بهذا الصدد لنشر أحدث منظومات الدفاع الجوي على الإطلاق، وهي المنظومات التي تعلن روسيا أنها قادرة على إحباط الدرع الصاروخية الأمريكية، أو أي منظومات جوية ودفاعية حديثة مهما كانت قدراتها. فهل سوريا بحاجة إلى هذه المنظومات؟ وهل حماية بشار الأسد ونظامه بحاجة إلى أحدث منظومات الدفاع الصاروخي؟ أم أن المسألة لا تتعلق ببشار ونظامه، وإنما بمصالح أكبر وصراعات أشد، وبشار الأسد مجرد ورقة عابرة ومبرر للتواجد؟ ولكن ما هو وضع تركيا في هذه المعادلة؟ البعض يرى أن أردوغان يشعر بالتهميش، وهو ما يدفعه للمغامرات، سواء بدعم التنظيمات الإسلامية المتطرفة في بلاده أو في البلاد المجاورة، أو إغراق أوروبا بالمهاجرين، أو التحرش بروسيا، أو الحلم بعودة الخلافة العثمانية برداء أردوغاني، والبعض الآخر يرى أن أردوغان يشعر بأنه غير مرغوب فيه لا من الولاياتالمتحدة ولا من أوروبا، وبالتالي، يستخدم كل أوراق الابتزاز الممكنة من جهة، ويغازلهما بإمكانياته في لجم روسيا نسبيًا من جهة أخرى. ولكن كل هذه التناقضات ومحاولاته استثمارها، لا يمكنها أن تستمر إلى ما لا نهاية، فالخصم الروسي، لم يدل بأي تصريحات حول استخدام القوة العسكرية أو اتخاذ أي ردود فعل عسكرية على ما فعله أردوغان وداود أوغلو تحديدًا، وربما تكون النسبة الأكبر من تصريحات بوتين ومرؤوسيه موجهة للداخل الروسي، ولحفظ ماء الوجه أمام بعض الحلفاء مثل نظام دمشق وطهران وحماس وحزب الله، ومع كل ذلك، لا يمكن أن نستبعد ردود فعل روسية مختلفة ومتنوعة وفي إطارات وسياقات محددة، وقد تكون موجعة لتركيا على المدى الطويل، وذلك في حال صمم الأغا التركي على المضي قدما ضد الدب الروسي، علمًا بأن الدب على استعداد أن ينسى "مؤقتًا"، لأنه في وضع سئ للغاية!!