(غريييييييييييييق) دوَّى الصوت مجلجلا ليملأ فضاء البر الغربى لنهر النيل فى تلك البقعة الهادئة من جنوب مصر. كان الصوت لشيخ عجوز واقفا مكتوف الأيدى، لا يملك من أمره غير النداء بكل ما عنده من صوت لعل أحدهم ينقذ (الشيخ يوسف) كبير البلدة؛ والذى إذ فجأة انهار به الجسر فى أثناء عبوره النهر من الغرب نحو الشرق. كان الشيخ يوسف (كبير البلدة) قادما من غرب البلد، بعدما أمضى أكثر من نصف يومه يصلِح الأحوال المزرية هناك، ونصح مَن نصح، وساعد فى الخفاء مَن يحتاج، وأرسى دعائم سلام فى بيوت أوشكت على الاشتعال، وإذ فجأة وبعد مروره على الجسر المتين الواصل من الغرب إلى الشرق يسقط فى النهر نتيجة انفجار قنبلة وضعها بعض الخبثاء فى طريقه لعلهم يسترضون شيطانا يحتلّ قلوبهم. كان شباب ورجال البلدة، كلٌّ فى طريقه ماضٍ، حامل على رأسه قفة همومه، متأبِّط حزمة من المشاغل، مكتسٍ بغلالة رقيقة من الرضا، وإذا بالصوت يصرفهم عن كل ما هم فيه، فهبّوا مسرعين نحوه، ملقين أحمالهم، مخلِّفين وراء ظهورهم كل ما يشغلهم فى محاولة لإنقاذ كبيرهم المحبوب. كان كلٌّ منهم يسعى ليمد يده إلى الكبير، أو يبحث عما يمده له ليجذبه من اليَمّ، أو يقدح زناد فكره لعله يهتدى إلى وسيلة ترفع الكبير فوق سطح النهر. وكان هناك من بينهم من لم يملك إلا الدعاء، ومن لم يملك له ولا حتى الدموع. كان صاحبنا الملقب (بالواد يوسف)، تمييزا له عن شيخهم الكبير، واحدا من خيرة شباب البلدة الواعد يقف بعيدا فى آخر صفوف الجمع، ولما أحس بخيبة محاولاتهم.. انسلّ بهدوء بينهم زاحفا على يديه تارة، وعلى بطنه أخرى، حتى إذا وصل إلى حرف البرّ.. تعرَّى من ملابسه المتهرئة مندفعا نحو الغمر، لتهتف أصوات قليلة ممن رأوه؛ مشجعة، ومحيّية على الشجاعة، ومساندة له ضد الموج العاتى. حتى إذا وصل إلى الكبير أمسك بيده، حمله على كتفيه؛ غير مكترث بالأصوات الهاتفة بشجاعته، واضعا كل فكره فى الكبير المحمول على ظهره.. إلى أن وصل به إلى البر.. امتدت الأيدى لتتلقف الكبير؛ مهنئة له على سلامته، ونجاته، وارتفعت أكفٌّ أخرى بالابتهال شاكرة، ولم يكترث أحد بمن أعاده إليهم. كان (الواد يوسف) لم يخرج بعد من النهر؛ حينما تذكره الشيخ يوسف.. استدار ليشكره فإذ به يرى تمساحا هائلا وقد أطبق فكيه على ساقى صاحبنا الذى أعجزه هول الصدمة عن أن يصرخ ولا التفت إليه أحد فيعرف فجيعته. كاد (الشيخ) يمد يده ليسحب (الواد) من بين فكى الحيوان النهم لينقذ ما يمكن إنقاذه، وما إن مال نحوه مادًّا له يدًا حانية كعادته مع جميع بنى البلدة، إلا وامتدت أفواه قاضمة أذنيه بأنياب قولها (احترس لئلا يجرفك معه).. لم يستسلم لها إلا بعدما ألحت وأمعنت فى الإلحاح.. رفع كفيه نحو السماء طالبا له الرحمة.. استدار مع الجمع مولِّين ظهورهم للنهر متجهين نحو مقره المريح، ليستجمّ بعد العناء محتفلين بفساد مكيدة الأشرار، وليواصل الكبير ما بدأه فى إصلاح أحوال البلدة. كان المساء قد حلّ؛ حينما لفظ التمساح رأس (الواد يوسف) بعدما أتم التهام صاحبنا، لأنه لم يستلذّ بطعمها، لتطفو وتصل إلى البر الشرقى؛ حيث وجدتها فى مسيرة حياتى، وقصّت علىَّ ما قرأتموه للتوّ.