ونحن نحتفل بالعيد الثانى والأربعين لحرب السادس من أكتوبر، وفى ظل وصلات التفاخر المعتاد بكل ما هو عسكرى، أحب أن ألقى الضوء على البطل الحقيقى لكل انتصارتنا؛ الجندى المجند المصرى. الجيش المصرى جيش يعتمد فى قوامه الأساسي على التجنيد، أى أن المدنيين الذين يقضون خدمتهم العسكرية بهذا الجيش يمثلون الأغلبية المطلقة، فهم كل الجنود، إلا قليلا من المتطوعيين، ومعظم صغار الضباط، الذين يطلق عليهم (ضباط الاحتياط)، وفى هذا يختلف الجيش المصرى عن معظم الجيوش الغربية التى ألغت التجنيد الإجبارى منذ ستينات القرن الماضى، وأصبحت تعتمد على جيوش محترفة قليلة العدد عظيمة التكنولوجيا مكونة من جنود وضباط اختاروا الحياة العسكرية كمهنة بإردتهم الحرة دون أى إجبار. طبعا هناك فروق كثيرة بين الجندى المجند والعسكرى المحترف، لعل أهمها، فى رأيي، إن المجند هو شخص مدنى يؤدى مدة خدمة إلزامية عسكرية كضريبة وطنية إجبارية لمدة محددة ومؤقتة، بينما المحترف هو شخص وهب حياته للعسكرية واتخذها مهنة بإرادته الحرة وبدون أى إجبار، ومن ثم فالحقيقة هى ببساطة أن (المجند مدنى مهما طالت مدة خدمته العسكرية) و (العسكرى المحترف عسكرى مهما قصرت مدة خدمته العسكرية). وبما إن المجندين يمثلون الأغلبية الطاغية للجيش المصرى، فمن الطبيعى إنهم الوقود الأكبر للحروب فمنهم أغلب القتلى وأكثر الجرحى والمعاقين، وعلى الرغم من هذا فنادرا ما ترى تقديرا كبيرا واحتفالا عظيما بما يقدمه هؤلاء الأبطال المدنيين من تضحيات، بل إن الفخر و التكريم والاحتفال يكون فى أغلبه الأكبر لصالح العسكريين المحترفين، كما نرى جميعا فى احتفالات السادس من أكتوبر مثلا، حتى الاحتفال اليتيم بهؤلاء الجنود بوضع إكليل الزهور على قبر الجندى المجهول أصبح يطغى عليه، وضع آكاليل الزهور فى ذات الوقت على قبر الزعماء ناصر والسادات، فيخبو فى ظلهما وضع الزهور على قبر الجندى المجهول وتنساه الجماهير ويضيع حتى المعنى من ورائه. الحروب يكسبها القادة ويدفع ثمنها الجنود هذه هى الحقيقة.. لكن الهزائم فى بلادنا لا يدفع ثمنها القادة مثلما يجنون ثمار النصر بل يدفع ثمنها الشعب كله فيما عدا القادة.. ولنا فى نكسة 1967 مثال واضح على كيف دفع المجتمع المصرى كله ثمن هذه الهزيمة وكيف أفلت كل القادة من الحساب، اللهم إلا المشير عبد الحكيم عامر الذى انتحر أو انتحر (بضم الواو) قربانا وحيدا ليفدى كل العسكريين. عندما نحارب فنحن نحارب جميعا مدنيين وعسكريين محترفين، يقودنا العسكريون المحترفون لأن هذه وظيفتهم التى ارتضوها بإرادتهم الحرة واحترفوها وكما إنهم يدفعون ثمن هذا الاختيار سلبا بتعريض حياتهم للخطر، فإنهم يأخذون ثمن هذا الاختيار إيجابا بالتقدير العظيم الذى يمنحهم إياه المجتمع والتمييز فى كل مناحى الحياة وتسهيل معيشتهم ومعيشة عائلاتهم بكل السبل.. أما المدنى المجند فهو يحارب وقودا للحرب فى قاع السلم الوظيفى العسكرى مقدما حياته دون أن يحصل على أى تمييز من الجتمع من أى نوع، اللهم إلا لقب شهيد الذى يمن عليه به الخالق سبحانه وتعالى إذا ما توفاه فى المعارك. يقولون إن التجنيد الإجبارى هو النوع الوحيد الباقى من السخرة فى العالم، وأنه ضد حقوق الإنسان التى تحظر إجبار أى إنسان على آداء أى عمل ضد اعتقاده وبدون رغبته حتى لو كان هذا العمل فى سبيل الدفاع عن الوطن. وتثار هنا عادة أسئلة فلسفية من نوعية: من الذى يحدد إن كان هذا الفعل فى سبيل الدفاع عن الوطن أم إنه لإرضاء الحاكم مثلا أو لغيره من الأسباب؟ هل يملك الجندى السعودى على سبيل المثال أن يمتنع عن قتل أخيه الجندى اليمنى فى الحرب الدائرة بين السعودية واليمن الآن؟، هل إذا رفض هذا الجندى قتال أخيه يكون منتصرا لحقه فى عدم ارتكاب جريمة قتل أم يكون خائنا للوطن؟ لهذا تتقلص الجندية الإجبارية فى العالم المتقدم كله مفسحة المجال للعسكريين المحترفين الذين يمتهنون القتال بدون أى اعتبارات عقائدية من أى نوع أو بصراحة ووضوح أكثر بدون أى ضمير. عزيزي المواطن مصرى وأنت قاعد بتتقرج على فيلم (الرصاصة لاتزال فى جيبى) احتفالا بيوم النصر عاوزك تفكر فى الكلمتين دول؛ علشان لما حد يقولك انتصار المؤسسة العسكرية فى حرب السادس من أكتوبر، ترد عليه وتقوله: لا يا سيدى ده انتصار لمصر كلها وللمدنيين المجنديين الذين عبروا القناة وقتلوا من أجل هذا النصر معظم الفضل وأكثر الشهداء وكل عام وأنتم بخير. مش نفوق بقه يا مصريين؟