نظرية الأواني المستطرقة كما درسناها في المدرسة تقول: إن قوانين الجاذبية تجعل السائل يصل لنفس الإرتفاع إذا ما تم وضعه في أنابيب متصلة وإن كانت مختلفة الشكل والحجم والزوايا، نظرية الأواني المستطرقة يحكمها قانون واحد هو قانون الجاذبية الأرضية، وتتساوى بعد ذلك كل الأشياء أيا كان موضعها، السائل الذي نضعه يتساوي فيها جميعاً رغم الإختلافات الجذرية في كل شئ ما عدا الإرتفاع، تذكرت هذه النظرية التي درسناها في الإبتدائية عندما فشلت كل النظريات التي تعلمتها في دراستي للعلوم السياسية في تفسير الحياة السياسية في مصر منذ ثورة يناير 2011 وحتى اليوم. اكتشفت أن هذه النظرية هي الوحيدة التي تفسر حركة النظام السياسي المصري في صوره الثلاث: المجلس العسكري، والإخوان، وثورة 30 يونيه. في جميع هذه التجارب الثلاث كانت نظرية الأواني المستطرقة هي العامل الوحيد الذي يتحكم في تفكير النظام السياسي…ودعونا نضرب المثال ليتضح المقال. أولاً: الناشط السياسي الذي يجيد النقد والتحريض وحشد الجماهير ضد سياسات معينة، أو ضد نظام سياسي معين صار مرشحاً لتولي مناصب تنفيذية كالوزير أو المحافظ…لماذا ؟ …يأتيك الجواب فوراً…لتمكين شباب الثورة الذين هم الأقدر والأجدر بقيادة الدولة لأنهم قاموا بالثورة…نظرية الأواني المستطرقة…من يصلح في أي شئ يصلح لكل شئ… من كان فاعلاً في هتافات المظاهرات يكون أكثر فاعلية في قيادة الوزارات… من يصلح للهدم هو الأجدر بتولي مهمة البناء… تفكير عقيم مازال هناك من ينادي به لان نضجه العقلي توقف عند نظرية الأواني المستطرقة. ثانياً: الواعظ الهاوي الذي يجيد حفظ القصص التاريخية المحملة بشحنات عاطفية تستذرف الدموع من العيون، والذي يتقن الصراخ في المصليين، والذي يقوم عقله بمهمة واحدة هي الحفظ والإسترجاع والترديد، وهو في سلوكه محبوب من أهل قريته، أو أهل الحي الذي يعيش فيه؛ لما عليه من سمت التدين وما يقوم به من فعل الخير كالصلاة والدعاء وتحفيظ القران….هذا الإنسان الطيب تحول فجأة إلى أكثر المصريين قدرة على القيام بمهام التشريع والرقابة على الحكومة ومساءلتها، فتم ترشيحه لعضوية البرلمان، وفاز بسبب الحشد الديني الداعم، وكان من نواب الأمة….لماذا؟…نظرية الأواني المستطرقة… من يصلح في أي شئ يصلح لكل شئ. ثالثاً: مهندس أو طبيب كان بارعاً في قيادة الأنشطة الطلابية في المدينة الجامعية، وكان عضواً نشطاً في تنظيم مظاهرات الجماعة الإسلامية في الجامعة، ثم أصبح نقابياً يجيد تنظيم معارض السلع المعمرة ورحلات المصايف، هذا الإنسان الخدوم النشيط أصبح بقدرة قادر من كبار مساعدي رئيس مصر المعزول، أو وزيراً أو محافظا….لماذا؟…نظرية الأواني المستطرقة… من يصلح في أي شئ يصلح لكل شئ. رابعاً: أستاذ جامعي أو صحفي أو محامٍ بارع أو إماما مسجد كان يصلي خلفه المتظاهرون في ميدان التحرير، كل منهم يجيد مهنته، ويتقنها طبقا لمعايير مصر في مرحلة ما بعد الريادة، يحترمهم زملاؤهم، ويقدمون خدمة جيدة في مواقعهم، وقد يكونون أفضل من أقرانهم من نتاج الفرز العكسي، هؤلاء تحولوا بقدرة قادر إلى أكثر نجوم الفضائيات جاذبية كمذيعين، ينافسون المذيعين ومقدمي البرامج المحترفين في إقتسام كعكة الإعلانات الضخمة، ويحصلون على ملايين الجنيهات، ويشككون في شرعية وجود كليات للإعلام وأقسام للإذاعة والتلفزيون….لماذا؟…نظرية الأواني المستطرقة…منيصلح لشئ يصلح لكل شئ. خامساً: مهندس يجيد مهنته، ترقى إلى أن أصبح مدير شركة، يعرف في الإدارة الهندسية بحكم الترقية والتجربة والخطأ؛ لا بحكم الدراسة والتحصيل العلمي والتدريب المتخصص، حقق نجاحاً في الشركة التي كان يقودها، كان يمكن أن يكون وزيرا للصناعة أو للبترول أو للإسكان أو لأي تخصص فني، ولكن بقدرة قادر أصبح رئيساً لوزراء مصر، يدير دولة مصر، يدير التعليم والسياسة الخارجية والصحة، ويضع رؤية الدولة وينفذها للسنوات القادمة..لماذا؟… نظرية الأواني المستطرقة… من يصلح لشئ يصلح لكل شئ. سادساً: من المستقر عليه في العالم الذي لا تحكمه نظرية الأواني المستطرقة أن هناك تخصصان يستحيل أن يكون منهما رئيس وزراء أو رئيس سلطة تنفيذية هما: الهندسة والمحاسبة، مع كامل الإحترام للعقول الرائعة المبدعة التي جاءت من هذين التخصصين، والتي قدمت إسهامات ضخمة جدا في مختلف المجالات، ولكن لماذا لا تصلح هذه التخصصات لتكوين رئيس وزراء ناجح؟ … تأتيك الإجابة على الفور… هؤلاء المهندسون والمحاسبون يتوقف إتقانهم في مهنهم على التركيز على التفاصيل، والإهتمام بالدقائق من الأمور والأرقام الصغيرة والإجراءات، وهذه هي طبيعة عملهم؛ التي تحتاج منهم ذلك، ولو لم يهتموا بالتفاصيل والدقائق لن يكونوا مهندسين أو محاسبين ناجحين. أما مهنة رئيس السلطة التنفيذية، أو رئيس الوزراء فتحتاج إلى أن يكون من يشغلها إنسان لا يهتم بالتفاصيل، ولا الدقائق من الأمور لان ذلك من إختصاص الوزراء والمحافظين، أما رئيس الوزراء فمهمته أن يركز على الصورة الكلية، على الصورة العامة، على المدى المستقبلي، على الأفق…وظيفته تتطلب منه أن ينشغل بالكليات وليس بالجزئيات، أن يكون ربان السفينة وليس ميكانيكي السفينة، ولو إنشغل بمحركات السفينة فسوف تصطدم بأقرب جبل وتغرق. للأسف السقف المعرفي في مصر لم يرتفع، مازال كما هو نفس سقف نظام مبارك، بل تدنى عن عهد مبارك، الثورة كانت فورة عاطفية أفرزت كائنات إنتهازية تسعى لقطف الثمار، وإقتسام الغنائم، وتوزيع جثة الوطن بين الأتباع والأشياع والأصدقاء ومن يؤمن جانبهم…وحسبنا الله ونعم الوكيل.