لكى تنتصر فئةٌ ما فلا بد أن تنتمى إلى قضيتها إلى أرضها.. وتؤمن بما فعلت وتصدق أن النصر آتٍ لا محالة، حتى وإن أصبحنا فى وطن يحكمه عبيد منزل، حكَمه من قبلهم خصيان وأغوات ومماليك. وطن عاش لأكثر من ألفى عام دون حاكم منه، بل من غزاة ومستوطنين. وطن تغير اسمه أكثر من مرة، إلى درجة أن اسمه فى آخر لغة تبناها وهى اللغة العربية مرادف لكلمة بلد «مصر من الأمصار، أى بلد من البلدان». علم يتشابه مع أعلام أكثر من دولة أخرى، وشعاره طائر يأكل الجيف؟ تخيل معى، وطنا يحكمه غزاة، اسمه لا يدل على شىء منه، وتسأل أبناءه أن يشعروا بالانتماء تجاهه. ماذا فعلنا، وعلى ما تربينا، ونشأنا لكى ننتمى إليه؟ لم نُربَّ فى المدارس على أن لنا وطنا ننتمى إليه، بل مجرد ذكريات عن ماض بعيد كل البعد عنا. «تخيل معى، أن نفس كتاب التاريخ، المعلم الأول للانتماء، يعلمك تاريخ أجدادك الفراعنة فى المرحلة الابتدائية، فى نفس الوقت الذى يعلمك فيه مدرس الدين واللغة العربية وغيرهم، أن الفراعنة كفرة، وأن الفرعون كافر ادعى الألوهية، وأن الله غضب عليهم». تخيل مرة أخرى معى، أن يعلموك أن الهرم الأكبر أحد عجائب الدنيا، فى نفس التوقيت، الذى يخبرونك فيه بأن النحت والتصوير حرام. إن كانوا يهدمون أى محاولة لغرس الانتماء إلى تاريخك، بل مجرد لعنات عليه، وتحريم لكل منجزاتهم. فكيف يكون الانتماء؟ ماذا قدم مثقفوه وعلماؤه إلينا غير بكائيات على ما كان، وتقليل من قيمته؟ وحتى من يدعون الوطنية منا، يستجلبون تاريخا عظيما آخر كنا فيه مجرد مشاركين لا خالقين له. سواء تاريخا إسلاميا، أو عربيا، أو مسيحيا، أو يونانيا من عهد البطالسة. نستخدم التأريخ الهجرى، والغربى، ونتناسى تأريخنا الأصلى. وحتى الباحث الذى قرر أن يعود إلى جذوره التاريخية، مات من الحسرة «بيومى قنديل». نحن جيل، حاول أن يبحث عن معنى الانتماء كثيرا، ولم يجده، كان يحاول أن يرى فى من حوله، أى إشارة على الطريق، أى إرشاد، أى شىء يجعلنا ننتمى لهذه الأرض، ولم نجد. حتى هبطنا الشارع مع «كفاية» فى ديسمبر 2004.. غضبا من إهدار كرامتنا، فى كل أرجاء الأرض، فمن رئيس يسمَّى بالبقرة الضاحكة، يفرط فى حقوقنا فى الداخل والخارج ونحن بالنسبة إليه، مجرد بقرة تحلب حتى تموت. إلى شرطة فاسدة، وقضاء مشكوك فى عدله. «ولا ننس أنه كلما زاد فساد أحدهم، كلما تعالت نبرات القضاء الشامخ، والشرطة درع الأمان». إلى مواطنين غُلبوا على أمرهم، فأصبحوا يزاحمون بعضا على لقمة الخبز، وتزداد كراهيتهم لبعض، ومن ثم تخرج علينا جمل «أصل دا شعب نمرود»، «أصل دا شعب جاهل»، على أساس أن جنابه، أو حضرتها، جزء من عرق أعلى. كنا الرافضين، وكنا قد بدأنا نشعر بالانتماء، وكان إحساسا مُسكِرا، كنا ننتمى إلى من يجوارنا، ولكل شبر أرض، نقف عليه، ونحميه، من أى هجمة لكلاب الأمن المركزى. بدأنا نشعر، أن لنا فى هذه الأرض - الوطن، مكانا. وعندما قامت ثورة، هى الأولى فى تاريخه الحديث، التى قامت من الشعب، وانتصرت بالشعب، وستستمر به، فى أول انتصار فى تاريخه الحديث، مبنى على الإرادة المجتمعية للأفراد وفقط. عندما قامت الثورة، أصبح هنا اجتياح طاغ لشعور الانتماء إلى هذه الأرض، لهؤلاء الذين يقفون بجوارك، لا تعرف أسماءهم، ولا من أى مكان أتوا. بدأت كل الأغانى الوطنية الآتية من الستينيات وسبعينيات القرن المنصرم يتكون لها معنى داخلنا. أصبحت كل كلماتها جزءا منا، سواء كانت الأغنية عن الشهيد والأم، أو عن الإرادة المنتصرة، أو الغد الذى سيبنى بأيدينا. أصبحنا نشعر أننا جزء من كل، متناسين ذواتنا، متناسين احتياجاتنا الآنية والأنانية، غير راغبين فى شىء غير الانتصار لنا جميعا، نحن الشعب. أصبح لدينا وطن حقيقى، لا مجرد كلمات مغناة فى أغان مقفاة. لا مجرد أشعار تلقى فى احتفالات بعيد جلاء، أو انتصار، أو حركة جيش. أصبح عندنا وطن.. فقد على رقعة منه صديقا، ورفع فى أخرى زميلا. وحارب لآخر نفس جحافل البيادة رفيق ثالث. أصبح الانتماء مفهوما، فهى أصبحت أرضنا، ونحن محرروها ممن ظلمها، وفجر بها وبنا. أصبحنا أبناء هذه الأرض، ولا يستطيع أحد مهما كان أن يستعبدها مرة أخرى، فلا تبتئس بما يحدث حولك، ولا تستغرب، ولا تقنط، فنحن فى أقسى لحظات العبث الآن، فكل حيوانات الظلام تتخبط، محاوِلة إيجاد مخرج، تحاول أن تتسلط، تحاول أن تقتل ذلك الانتماء من جديد. تحاول أن تعود بنا إلى حظيرة التيه، تحاول أن تكسر كل ما بُنِىَ داخلنا، وإعادتنا مرة أخرى، فاقدين الانتماء - الاهتمام، غير مكترثين، مجرد زومبى تأكلهم حياتهم التعسة، ويقتاتون على ما تبقى من أرواحهم. كل ما يحاولونه هو إفقادنا البوصلة، كل ما يحاولونه هو أن نكفر بكل ما آمنا به. وعندها، سنهزم، وينتصرون. حافظ على ما أعطته لك هذه الثورة.. ارْفض كل ما عداه. اقْبل. وسننتصر، ولو بعد حين.