بين جميع المهن التي يسترزق منها أبناء الإسكندرية، يوجد البعض المهدد بالانقراض، لولا عدد قليل من "الصنايعية" الذين يعطون قبلة الحياة لها ويحافظون عليها. ففي ورشة بسيطة للغاية وبإمكانيات قليلة بمنطقة الفراهدة التابعة لحي اللبان بالإسكندرية، يبقى صنايعية "سباكة المعادن" المهنة على قيد الحياة؛ ويقول دُري عبد الرازق، 62 عامًا ل"التحرير": "توارثت المهنة عن والدي الذي امتلك مصبغة معادن بشارع سيدي الواسطي منذ عام 1953، فتخرجت في كلية الهندسة لأعمل في المهنة، التي لا أجيد غيرها منذ طفولتي". ويضيف عبد الرازق: "أنا أعشق هذه المهنة، 50 سنة شغل فيها مش قليل، ده عمر بحاله.. لكن الأوضاع تتبدل كل سنة عن الأخرى". ويشرح عبد الرازق، الخبير في "سباكة المعادن" – بحسب تعبير المحيطين به- أصول المهنة بقوله: نعمل على المسابك التي تقوم بصهر المعادن كالألومنيوم والزهر والنحاس وغيرها من الأشكال المعدنية مثل القوالب الخاصة ببعض الماكينات، ونحصل على المواد الخام التي تدخل المسابك من عمال الروبابيكيا الذين نشتري منهم بعض الخردة مثل الصنابير القديمة. ويواصل: "بعد صهر المعادن نصنع أشكالا مثل غطاء كرسي البلي المستخدم في محركات السيارات، وماكينات تقطيع السجق والبسطرمة، والزخارف الزجاجية"، ويشير إلى أن المواد الخام - الخردة - يتم وضعها في بواتق مصنوعة من الألومنيوم تعمل بنوع من الزيت الرديء المتبقي من مواتير السيارات لتبدأ عملية صهر المعادن، وبعد تمام انصهارها ترفع البوتقة من النار بواسطة الشيالة لتصب في الفراغ للخروج بالشكل النهائي الذي غالبًا ما يكون بالقطعة ولزبائن محددة. ويتم تحديد سعر المنتجات التي يبيعها سباك المعادن وفق عدة عوامل منها الوزن، واللون، وسعر المادة الخام المستخدمة في التصنيع. ورغم حفاظهم على المهنة المهددة بالإندثار، يعاني سباكو المعادن من عدم الحصول على امتيازات من شعبة الغرف التجارية التي يشتركون فيها، إذ يوضح عبد الرازق: "الغرفة التجارية وعدتنا بنقل الورش الخاصة بنا إلى منطقة أسود الكربون بغرب الإسكندرية، لكن الأمر كان سيشكل خطرا كبيرا علينا، إذ أن الورش الجديدة وجدناها مقامة فوق خطوط البترول". ويعاني "القابضون على المهنة" من عدم توافر البواتق (الأفران) التي كانت تستورد في السابق من إنجلترا، "أما الآن فالمتوافر منها يتم استيراده من الهند والصين وهي منتجات ذات جودة ضعيفة، فاستخدامها ممكن أن يعرضنا للفتق أثناء عملية الانصهار وبالتالي تسيل كالمياه بين أقدامنا"، حسب عبد الرازق. ومن بين المشكلات التي يعاني منها سباكو المعادن، صعوبة الحصول على الخردة الجيدة، وعدم توافر الوقود، واستخدام "الزيت الراجع" المتبقي من زيت السيارات بديلا عنه. ولا يجني سباكو المعادن من مهنتهم كثيرا من المال، فالدخل الشهري للورشة الواحدة متوسطه ألف جنيه فقط، يقول عبد عبد الرازق: "أجر العامل بالمسابك انخفض بشكل كبير منذ ثورة 25 يناير.. والمصاريف مبقتش بتقضي، كمان فيه ورش قفلت". ولا يطلب سباكو المعادن من الدولة الكثير، إذ يختتم العامل الخبير في المهنة حديثه: "نتمنى توفير ماكينات حديثة ومواد خام، ووقود، وأماكن عمل آمنة، فهذا كل ما نأمله حتى نحافظ على المهنة التي باتت في مهب الريح". * * * * * * * * * * * * *