من الغرائب المعاصرة فى الحياة المصرية أن يتداول الناس كلاما لا ينطوى على معنى مفيد واضح بلا إلغاز، وهى جميعا من أغراض اختراع الإنسان للغة منذ أطوارها البدائية! بل إن السعى لتحقيق هذه الأهداف هو من أهم عوامل تطور اللغة، حتى بشكل تلقائى بين من يرتبطون بعلاقات الجماعة الواحدة. خُذْ تسمية «المايوه الشرعى»، التى تنتشر بسرعة وتجد من يدافع عنها بشدة، دون مراجعة أو حتى دون تفكير بسيط فى معنى الكلام وفى مدى دقته! بل إن هناك من صار يزكى فتاة للزواج باعتبارها ملتزمة بالمايوه الشرعى! هل حقا هناك اتفاق بين عدد من الفقهاء، ممن درج الناس على النقل عنهم، على هذه التسمية؟ أو حتى هل هناك فقيه معتبر بتّ فى الموضوع؟ من الذى نحت هذا المصطلح؟ ومتى؟ وكيف، وفى أى ملابسات، قرر أحد أن يضيف مِسحة دينية على المايوه؟ وكيف يجرى تداوله يوميا دون يتوقف من يستخدمونه بالتساؤل أو بالدهشة؟ طيب، كيف شاعت التسمية فى الإعلانات وعلى ألسنة الباعة فى المتاجر مع زبوناتهم؟ وكيف بات فى يقين قطاعات كبيرة من النساء، وأزواجهن وذويهن، أنهن يلتزمن بالشرع عندما يرتدين هذاالمايوه؟ وقد زعمت واحدة من كاتبات الفيس بوك أن مسؤولى أحد الشواطئ الخاصة فى الساحل الشمالى منعوها من نزول البحر بهذا الشيئ، فراحت هى تُشَهِّر بهؤلاء المسؤولين بقولها إنهم بهذا يحاربون الإسلام! يبدو أن هذا المايوه صار فى يقينها يشكل ثابتا لا يجوز المساس به! ليس القصد التدقيق فى صحة هذه الواقعة الأخيرة، خاصة أن كثيرات رددن على صاحبة الرواية بأنها كاذبة، لأنهن تعودن أن يذهبن إلى نفس المكان ولم يعترض أحد على ارتدائهن المايوه الشرعى! هن أيضا يقُلن إنه شرعى! المُلاحَظ أن المتحمسين لهذا المايوه لا يلقون بالا للرأى القائل إن التصاق الملابس المبلولة بجسد المرأة أكثر إثارة من المايوه الذى تعفّ عن ارتدائه، وإن مرتادى الشاطئ يعتادون على منظر المايوه المألوف فى بقية العالم بعد دقائق من مشاهدة السابحات والماشيات على الشاطئ، وإنما يلفت نظهرهم أكثر أن تخرج أمامهم من المياه واحدة بهذا الشرعى! كلام آخر، فى موضوع آخر، شاع فى الأيام الأخيرة، عن أن عددا من الراقصات يتعمدن إثارة الجمهور، وأنهن يخرجن على الآداب العامة، مع بعض الإضافات الحرِّيفة عن كيف يفعلن هذا! وعلَّق أحد الظرفاء بأنه لم يكن يعرف أن دور الراقصات حماية الأخلاق العامة، أو أن يكون من مهامهن الوظيفية الحضّ على مكارم الأخلاق! وكان التعليق المنطقى من آخرين: هل يعترض المعترضون على نوع معين من الرقص مع موافقتهم على فن الرقص؟ أم أنهم يعترضون على الرقص من ناحية المبدأ؟ وما هو موقفهم من الفنون عامة؟ وقامت الشرطة بالقبض على المطلوبات فى عملية ضخمة لا تقل عن مواجهة القوات المسلحة للإرهابيين العتاة فى سيناء! وقامت النيابة بالتحقيق! وعَلِم بالأمر وبتفاصيله الدقيقة من لم يكن يعلم، وهم الأغلبية الساحقة من المواطنين. أول ما ترتب على بثّ الخبر بهذه الصيغة أن طبقت شهرة الراقصات الآفاق فى وقت يقال إن السعى هو لمعاقبتهن جزاء على انتهاكهن للأخلاق العامة، كما خَلَقَ النشرُ عنهن طلبا سريعا لمعرفة كيف هو أداؤهن، وراحت المواقع الإلكترونية تتسابق فى نشر شرائطهن المسجلة تحت عنوان فضح وشجب هذا التهتك! وكان هذا مُرضيا لمن يبحث عن هذه النوعية من الرقص، كما أنه رفع من فئة المتهمات فى الكارير الذى اخترنه لأنفسهن! بعد المشاهدة والمعاينة الدقيقة تبين للناس أن هذا الأداء الذى يعمل البعض على إدانته قضائيا لا يختلف كثيرا عما تقدمه نجمات مشهورات تحتفى بهن وسائل الإعلام وتتسابق فى استضافتهن وتقديم فنهن ودفع أعلى الأجور لهن! فهل صحيح أن الإجراءات تحركت ضد من لا سندَ لهن خشية الاصطدام بمن يجدن دفاعا من قواعد قوية؟ أم تُرى أن الهدف هو التوصل إلى إدانة قريبة سرعان ما يسهل تطبيقها على الجميع؟ مما يُرَجِّح أن هذه الحملات لا تتحرك تلقائيا، هذه الهجمة على شريط على يوتيوب لفتاة محجبة فى منطقة شعبية ترقص فى حلقة مقصورة على عدد من الفتيات كلهن بلا استثناء محجبات، ولا يظهر فى وسطهم أو إلى جوارهم أى شاب، قيل إن الاحتفال لزواج أو خطبة واحدة منهن، وكلهن فى حالة بهجة وفرح، فإذا بجيش من المعلقين على الفيديو يسبُّون الفتاة ومن معها بأقذع الشتائم ويتهمونهن بالفجور والانحلال، مع بعض الشتائم الأخرى التى لا يجوز تداولها فى الصحف السيارة. هذه واحدة من المشاكل العديدة التى نعيشها والتى من المستحيل التوصل إلى حل لها إلا بمواجهتها صراحة، وهى أن لدينا فئة تصرّ على فرض آرائها وأفكارها وأذواقها وتصوراتها وأوهامها وهواجسها على الجميع، ثم إرهاب من يختلف معها بأنها تمثل شرع الله وتدافع عنه. وللأسف، فقد نجحت هذه الفئة فى اختراق بعض أجهزة الدولة، ليس فقط لاستغلال صلاحيات تنفيذ القانون أو التشدد فيها، وإنما إلى حد التصرف بلا قانون فى حماية الهيبة المفتَرَضة للدولة، مثلما حدث فى إلقاء بعض رجال الشرطة القبض على عدد من المجاهرين بالإفطار فى نهار رمضان، ولكن النيابة أفرجت عنهم لأنه ليس هنالك تهمة فى القانون لما نسبه لهم أفراد الشرطة! أما أن تسكت الشرطة على الواقعة، ولا تجد نفسها ملزمة باطلاع المواطنين عما أتخذته من إجراءات ضد أفرادها الذى يُقلِقُون بعض المواطنين دون سند من القانون، فهذا مؤشر آخر على احتمال أن يكون الاختراق قد وصل إلى مستويات أعلى تملك أن تُجمِّد الموضوع دون مساءَلة المخطئ.