(كذبوا، فملء فم الزمان قصائدى أبدا تجوب مشارقا ومغاربا تستلُّ من أظفارهم، وتحطّ من أقدارهم، وتثلُّ مجدا كاذبا أنا حتفهم، ألجُ البيوت عليهمُ أغرى الوليدَ بشتمهم والحاجبا) هكذا كان يدرك الشاعر العربى العراقى الثائر قدر نفسه، ودوره فى الحياة العربية السياسية والثقافية والاجتماعية والفكرية، فهو الذى عاش القرن العشرين كله (مولود فى 26 يوليو 1899، ورحل فى 1 يونيو 1997) وحضر هزائمه وانتصاراته، وهاجم وأدان وشجب وحرّض، وسجن واعتقل وتم تشريده، وكذلك عمل فى بلاط الملك فيصل، الذى كان يحب الشعر، ولكنه -أى الجواهرى- ضجر وتمرد فاستقال، ليعمل فى الصحافة. حضور الجواهرى فى كل الأحداث العربية، لم يكن حضورا سلبيا، ولم يكن حضور الشاهد المحايد، بل كان حضور الفاعل والمشارك والمحرّض على انتزاع الحرية من الحكّام، كان ينتصر دوما للجانب المعتم من الصورة حتى تضىء، وكان يقاتل فى صفوف العدل المفقود فى الأرض العربية طيلة حياته حتى هذه اللحظة التى نحتاج فيها إلى كلماته. كانت -وما زالت- قصائده تفزع الطغاة والحكّام والمسؤولين، وعندما أقول «ما زالت»، فأنا أعنى ذلك تماما، فعندما كنت زائرا لبغداد منذ عامين تقريبا، وكنا فى محفل شعرى مهيب، فى إحدى القاعات الثقافية الرسمية، وكانت إحدى بناته موجودة فى القاعة، وبالطبع كانت القاعة تزدحم بالمسؤولين، وصعد أحد الحاضرين ليقرأ قصيدة للجواهرى احتفالًا بحضور ابنته، زمجرت بعض الأصوات، وحمحمت بعض الحناجر، وسرت فى القاعة همهمات المخبرين. ورغم أن الجواهرى حاضر بقوة، وفاعل فى المشهد، ولا فكاك من هذا الحضور المفزع فى مواجهة الاستبداد عموما، فإن هؤلاء المستبدين القدامى والجدد، يريدون أن يكون حضوره على شكل الأيقونات التى تتحول إلى تيمات فلكلورية، ولكن الشعراء العظماء الأحرار مثل الجواهرى والشابى والمتنبى تستعصى كلماتهم على ذلك التدجين الفلكلورى الخبيث. ويحكى غالى شكرى فى حوار طويل معه، بأن صورتين لا يستطيع أن ينساهما، الأولى عندما كان شكرى يتجول فى بغداد، وجاءت سيرة الجواهرى، فوجئ بأحد العامة يتلو عيون شعره، وبعض قصائده التى يحفظها عن ظهر قلب، وكأن هذا الحفظ نوع من الأداء الوطنى المعتاد، أما الصورة الثانية، فعندما كان يسير فى الشارع مع الجواهرى، كان المارة يستوقفونه لالتقاط الصور، وكان الجواهرى يستجيب ويلبّى، فهو كان يتنفس حقيقة بين الناس، كما أن الناس كانوا يتنفسون شعره الذى يمنحهم روح التحدى والنضال من أجل الحرية. وللجواهرى قصائد كثيرة فى التأبين، ولكنها لم تكن مثل المراثى التقليدية، التى تتحدث عن مآثر الفقيد الراحل، بل كانت قصائده ومراثيه تلعب أدوارا مثل الأحداث، ويكتب محمد دكروب فى كتابه «وجوه لا تغيب»، عن هؤلاء الباعة الذين كانوا ينادون على صحفهم «اقرؤوا قصيدة الجواهرى الجديدة.. اقرؤوا قنبلة الجواهرى الجديدة فى وجه الطغاة». ففى الحفل الذى أقامته لجنة تأبين الفقيد الوطنى عبد الحميد كرامى فى لبنان، وذلك عام 1951، ألقى الجواهرى قصيدته فى حضور رياض الصلح رئيس الوزراء، ثم حسين العوينى الذى تولى الرئاسة بعده مباشرة، وكانت الصفوف الأولى تكدست بالمسؤولين والسادة الحكّام، وإذ بالجواهرى يوجه لهم خطابه الشعرى: (باق -وأعمار الطغاة قصار- من سفر مجدك عاطر موّار متجاوب الأصداء نفح عبيره لطف، ونفح شذاته إعصار رفّ الضمير عليه فهو منّور طهرا كما يتفتح النّوار) واستطرد الجواهرى فى قصيدته الطويلة يجلد هؤلاء السادة، حتى تجردوا عن وقارهم، فأسلوا له ورقة -وهو يقرأ قصيدته- على المنصة، بأن يغاد بيروت فى خلال أربع وعشرين ساعة، فلم يتزعزع ولم ينحن ولم يضعف، ولكنه ازداد حماسا وشراسة، ويكتب الذين حضروا هذه الأمسية، بأنه راح يطلق نظراته النارية نحو الصفوف الأولى التى ازدحمت بكل هذه الطغمة من المستبدين الجدد. ويكتب نورى عبد الرزاق فى صحيفة «المساء» بتاريخ 19 يوليو 1958 عن واحد من رواد الثورة العراقية، وهو جعفر أبو التمن، والذى توفى عام 1946، فكانت قصيدة الجواهرى إحدى روافع الحركة الوطنية العراقية فى ذلك الزمان، والتى كان يرددها العراقيون فى معظم المناسبات الوطنية. هذا الجواهرى الثائر الحرّ المناهض لكل أشكال الاستبداد، والمتحمس للحرية بشكل كبير، هو ذاته الجواهرى العاشق والمحب واللاهى، والذى تستغرقه لمسة إحدى المضيفات فى مطعم ببراغ، أو بائعة حاجيات فى محل ببيروت، فيظل معلقا نظرته تجاه جمال هذه، ورقة تلك، وله فى ذلك الأمر قصائد وقصائد، منها قصيدته «النزعة - أو ليلة من ليالى الشباب)، وفيها يصف ليلة نواسية بشكل واضح وصريح وبديع فى الوقت نفسه، وكتب بضع قصائد أخرى فى هذا المنحى، قلّبت عليه الرأى المتخلف الرجعى، هذا الرأى الذى لا يعرف أن الشاعر هنا، مثله هناك، وأن متشابهات الشاعر ليست كمتشابهات الشخص المحافظ. وفى هذا الشأن وجدت له قصيدة فى حضرة الراقصة اللبنانية بديعة مصابنى، التى عاشت كثيرا فى مصر، وكانت متزوجة من الفنان نجيب الريحانى، وتلك القصيدة ارتجلها الجواهرى عام 1936 والشاعر ولفيف من إخوانه يضمهم مرقصًا من مراقص بغداد، وهذا الهامش ورد فى ذيل القصيدة المنشورة فى الجزء الثالث من ديوان الجواهرى، والمطبوع عام 1953، والقصيدة تطالعنا فى صفحة 118، رغم أنها الوحيدة التى لم تدرج فى «فهرست الديوان»، وعنوان القصيدة «بديعة»، ويقول فى مطلعها: (هزّى بنصفك واتركى نصفا لا تحذرى لقوامك القصفا فبحسب قدّك أن تسّنده هذى القلوب، وإن شكت ضعفا أعجبت منك بكل جارحة وخصصت منك جفونك الوطفا ترضين مقتربا ومبتعدا وتخادعين الصفّ فالصفّا أبديعة ولأنت مقبلة تستجمعين اللطف والظرفا) هكذا يتنقل الجواهرى بين ظواهر الحياة المختلفة معبرًا بصدقه الذى يمنحه شرعية «الشاعر» بالألف واللام.