يوما تلو الآخر تكتشف واشنطن أن سياساتها الأحادية لم تعد تفيد لا فى الحال ولا فى الاستقبال، ومع ذلك تصر على أنها لا تزال «ضد العالم Contra Mondum»، وعلى غير المصدق لما نقول به الرجوع إلى ملامح الاستراتيجية الأمريكية الجديدة التى أعلنها رئيس الأركان مارتن ديمبسى نهار الأربعاء الأول من يوليو تموز الحالى، وقد وصفها البعض بأنها استراتيجية «حرب ثم حرب ثم حرب». كيف تستقيم هذه الاستراتيجية الجديدة مع فشل سياسات أمريكا حول العالم؟ كى نفهم سر السياسات الأمريكية العلنية والسرية لا بد أن ندرك فكرة «تكافؤ الأضداد فى الروح الأمريكية الواحدة»، بمعنى أنها تفعل الشىء وعكسه فى ذات الوقت، ففى الوقت الذى تثبت فيه توجهاتها عبر عقود طويلة فشلها، ها هى من جديد تعود إلى المربع رقم واحد فى استخدام السياسات عينها.. هل من مثال واضح؟ المؤكد أن إعلان باراك أوباما الأسبوع الماضى عن افتتاح السفارة الأمريكية فى هافانا بعد خمسة عقود من القطيعة يؤكد أن واشنطن أدركت أن الحصار الاقتصادى لا يفيد، فها هى واحدة من أفقر دول العالم تستطيع تحدى القوة العظمى الوحيدة شبه المنفردة بمقدرات العالم، وعلى المتعجب أن يشاهد الفيلم التسجيلى الذى عرض على شبكة الأخبار الأمريكية الشهيرة «سى إن إن» للمخرج الأمريكى الشهير مايكل مور، إذ فضح الرأسمالية الأمريكية البشعة، التى تسلع الإنسان، فى حين قامت كوبا الفقيرة المجاورة بتقديم علاجات لعدد كبير من ضحايا الحادى عشر من سبتمبر فى مستشفياتها المتواضعة. هل تعلمت واشنطن الدرس؟ المشهد نفسه تكرر مع طهران، فسواء اتفقنا أو افترقنا مع أو عن سياسات الملالى، إلا أنه يتوجب علينا الإقرار بأن طهران قد نجحت نجاحا كبيرا جدا فى تفادى الآثار السلبية للحصار الاقتصادى الذى فرضته واشنطن وبقية عواصم الغرب عليها، بل مضت إلى أبعد من ذلك فى بناء برنامجها النووى، ما أجبر واشنطن من جديد على الدخول فى مفاوضات ماراثونية لتحجيم قدرتها النووية أو بالأدق تأجيل حصولها على السلاح النووى عشر سنين أو خمس عشرة سنة على أكثر تقدير! لا تتعلم واشنطن من الماضى، وها هى من جديد تفرض عقوبات اقتصادية على روسيا عقابا لها على تدخلها المزعوم فى القرم رغم أن روسيا لم تقدم إلا على حماية أمنها القومى، بعدما بات الناتو على أعتاب روسيا مهددا الجمهورية الروسية وليس العكس. لا يتوقف التعنت الأمريكى عند حدود موسكو، بل نرى الكونجرس الأمريكى يسعى إلى فرض عقوبات اقتصادية على فنزويلا الجار المعاكس والمشاكس والرافض للهيمنة من زمن هوجو تشافيز إلى وقت نيكولاس مادورو، والذريعة الأمريكية الواهية هى قمع المظاهرات الأخيرة، ونسى الأمريكيون كيف يتعاملون بوحشية مع مواطنيهم السود فى فيرجسون وغيرها من المدن الأمريكية التى لا تزال تفرز عنصرية أقر بها أوباما نفسه فى الأسابيع القليلة الماضية. لم يقدر لرؤساء أمريكا منذ الخمسينيات تغيير النظام الكوبى، وبعد أزيَد من ثلاثة عقود لا يزال آيات الله يحتلون صدارة المشهد فى إيران وينتظر لهم نفوذ أقوى فى السنوات المقبلة، فهل يقتنع أوباما أن العقوبات على موسكو لن تفعل فعلها؟ أم أن عليه أن ينتظر خمسة عقود قادمة؟