اتهام البنَّا بالتلاعب المالى فى التبرُّعات لفلسطين «من شباب محمد إلى حسن أفندى البنَّا.. إنك لم تكن أمينا على الحوادث ولعلك ما زلت تذكر الحديث النبوى الشريف أن المؤمن قد يفسق وقد يسرق ولكنه لا يكذب قط». السائد فى أدبيات جماعة الإخوان المسلمين أن النقراشى باشا أصدر قرار حل الجماعة فى ديسمبر 1948، استجابة لضغوط وأوامر أجنبية، إنجليزية وفرنسية وأمريكية، وهذه الأوامر صدرت عن دوافع صهيونية، وذلك انتقاما من الجماعة للدور البطولى الذى قامت به فى حرب فلسطين، وأنه لولا قرار الحل فإن الجماعة كانت على وشك إنقاذ فلسطين وإبادة إسرائيل نهائيا، يقول كتاب الجماعة ذلك تبريرا لما قاموا به من اغتيال النقراشى، نجد ذلك واضحا فى كتاب محمود الصباغ «حقيقة التنظيم الخاص»، ولدى آخرين من كتابهم، لكن ما ردده هؤلاء الكتاب لإثبات تهمة الخيانة والكفر على رئيس الوزراء، وأنه كان يستحق الاغتيال، انتقل إلى مجال آخر تماما، هو أن الجماعة ومرشدها المؤسس تعرضوا للحل سنة 1948م استجابة للضغوط الصهيونية، وأن الجماعة كانت مهيأة بمتطوعيها وأسلحتها لإنقاذ فلسطين من الضياع، لكن حكام مصر، آنذاك، أى النظام الملكى ممثلا فى الملك فاروق ورئيس الوزراء محمود النقراشى، تدخلوا فى اللحظة الأخيرة لإنقاذ إسرائيل من دمار محقق، ومن ثم فقد أضاعوا فلسطين. الجماعة استغلَّت القضية الفلسطينية لادِّعاء الوطنية والإخلاص يذهب إلى ذلك من يوصفون بالمعتدلين داخل الجماعة، ومن يوصفون بالتشدد، أى أنه موضع إشفاق بين مختلف أطياف الجماعة، وكذلك بين أجيالها المتباينة، فما زال هذا الكلام يتردد إلى اليوم، وفى ديسمبر سنة 2008م، فى ذكرى مرور ستين عاما على اغتيال النقراشى، أعادت الجماعة إنتاج نفس الأفكار، بالكلمات ذاتها لكن بلهجة أشد حدة وأشد ثقة. د.حسان حتحوت، أحد الذين عاصروا البنَّا وعايشوه، يقول «فى اعتقادى أن السبب الأول لحل الإخوان، كان الطريقة التى حاربوا بها فى فلسطين، الداخل والخارج خافا من هذه العقيدة التى تحل فى المصرى العادى المسالم بطبعه فتحيله إلى الفدائية والبسالة اللتين لم تكونا معروفتين فى ذلك العهد»، ثم يقول «الملك والأحزاب فى الداخل والصهيونية والاستعمار فى الخارج كانوا فى خندق واحد تجاه الإخوان»، ثم يقول «وعلمنا من بعد أن سفراء أمريكا وبريطانيا وفرنسا قابلوا الملك وطلبوا منه حل الإخوان».. وإذا كان د. حسان يقطع بأن السفراء الثلاثة التقوا الملك فاروق وطلبوا إليه أن يحل الإخوان، فإن غيره من كتاب الجماعة لا يصلون إلى هذا اليقين، حيث يذكرون أن السفراء الثلاثة اجتمعوا فى فايد وأوعزوا إلى الحكومة المصرية أن تتخذ هذا القرار، أى أنهم لم يلتقوا الملك ولم يتصلوا به، ولكنهم «أوعزوا» إلى رئيس الحكومة، أى لم يطلبوا منه ذلك مباشرة، والمفاجأة أن الذى قال بذلك المرشد الأول حسن البنَّا نفسه فى معرض رده على مذكرة الحل التى رفعها وكيل الداخلية عبد الرحمن عمار.. وبعد مرور كل هذه السنوات وتكشف الكثير من الوثائق، فإن السفراء الثلاثة لم يجتمعوا وقتها فى فايد، ولم يستقبلهم الملك فاروق فى تلك الفترة، ولم يستقبلهم أبدا مجتمعين، وإن قرار الحل اتخذه النقراشى بعد حوادث الإرهاب التى قاموا بها، بخاصة مقتل الخازندار، وأن فريقا فى الداخلية المصرية كان يعارض قرار الحل، لأن الداخلية لم تضع يدها على كل عناصر التنظيم الخاص ولا تعرف حجم ما لديه من أسلحة وذخائر. يقدم حسين محمد أحمد حمود فى كتابه «حركة الضباط الأحرار والإخوان المسلمون» نفس التفسير لكن بحيثيات أخرى كأحد ضباط الصف الثانى فى تنظيم الضباط الأحرار. يقول «كان الملك فاروق ينظر بعين الريبة إلى الإخوان المسلمين ويخشى أن يؤلفوا جيشا فى فلسطين يكون خطرًا على عرشه، حقا لقد كان الإخوان المسلمون خطرا على إسرائيل، وقد فهم اليهود ذلك حق الفهم فى ميدان القتال، فأوحى اليهود إلى الإنجليز الذين أوحوا إلى الملك فاروق وأدخلوا فى روعة أن استمرار الإخوان فى جهادهم بفلسطين والنشاط الذى يجريه حسن البنَّا فى مصر لتجهيز قوات إخوانية كثيفة ليدخل بها فلسطين وإيقاظه لروح الجهاد الدينى فى الشعب المصرى سيصبح خطرا داهما على عرش فاروق، فأمر الملك فاروق رئيس وزرائه محمود فهمى النقراشى باتخاذ الإجراءات اللازمة للبطش بجماعة الإخوان المسلمين واستئصال شأفتهم». هنا يبدو أن الضغط كان إنجليزيا فقط، وأن صاحب قرار الحل هو الملك فقط، وأن النقراشى باشا كان مجرد منفذ لأمر الملك فقط، أى أنه لم يكن ضالعا فى مؤامرة دولية لصالح الصهيونية، لكن رئيس وزراء ينفذ تعليمات الملك، الذى كان خائفا على عرشه من البنا! ما يعنينا الآن هو ما يتعلق بفلسطين، إذ يقول «ولو تُرك حسن البنَّا على حريته لدفع إلى فلسطين بعشرات من الكتائب الإخوانية ولتغيرت نتيجة حرب فلسطين لا محالة، وخشى الملك فاروق أن يطمع حسن البنَّا فى حكم مصر وبخاصة بعد أن ظهرت بسالة وفدائية متطوعى الإخوان فى الحرب، فقرر التخلص من الشيخ حسن البنَّا بقتله واغتياله»، هنا يختفى الملك من قرار الحل ويظهر فى قرار الاغتيال. هذا المنهج فى تفسير قرار الحل، بدأه حسن البنا، فقد أعد «البنا» مذكرة للرد على مذكرة عبد الرحمن عمار وكيل وزارة الداخلية بحل الجماعة، وأطلق البنَّا على مذكرته عنوان «قضيتنا» ولم يقتنع فيها بأسباب حل الجماعة، ثم قال «مستحيل أن يكون الدافع الحقيقى لهذه الخطوة الجريئة من الحكومة مجرد الاشتباه فى مقاصد الإخوان أو اعتبارهم مصدر تهديد للأمن والسلام، وهو ما لم يعتمد عليه دليل ولا برهان، ويكمن الدافع الحقيقى فى ما نظن فى انتهاز الأجانب فرصة وقوع بعض الحوادث مع اضطراب السياسة الدولية وقلق الموقف فى فلسطين، وتردد سياسة مصر بين الإقدام والإحجام فشددوا الضغط على الحكومة، وقد صرح بذلك سعادة عمار بك نفسه، وأقر بأن سفراء بريطانيا وأمريكا وفرنسا قد اجتمعوا فى فايد وكتبوا لدولة النقراشى صراحة بأنه لا بد من حل الإخوان المسلمين.. وكان فى وسع دولته أن يزجرهم فى مثل هذا التدخل فى شأن داخلى بحت»، وعلى هذا النحو يواصل البنَّا الكلام إلى أن يقول إن النقراشى بدلا من ذلك استجاب لهذه الرغبة الأجنبية وإصدار قرار الحل فأشمت الأعداء وأحزن المؤمنين الأتقياء». ويكشف هذا النص عن غرور وثقة مطلقة، حين يقطع بأنه «مستحيل» أن تكون الدوافع الحقيقية للحل هى ما ورد بمذكرة عمار، ثم هو يقع فى تناقض حين يقول إن هناك «بعض الحوادث» وقع، دون أن يحددها ولا أن يحدد من قام بها، لكن بين هذه الحوادث «اغتيال رئيس محكمة فى الشارع العام.. وينسب حكاية اجتماع السفراء الثلاثة فى فايد إلى عبد الرحمن عمار، وقد قام عمار بتكذيب البنَّا ونفى أن يكون قد قال ذلك، نفاه فى تحقيقات النيابة العمومية بعد اغتيال النقراشى باشا، ولو أن هذه الواقعة حدثت فالذى يصرح بها ليس وكيل وزارة الداخلية، بل يصدر التصريح عن مكتب رئيس الوزراء أو عن وزارة الخارجية باعتباره يدخل فى اختصاصها أو عن أحد من السفراء الثلاثة.. كان حسن البنَّا يكذب فى هذه الجزئية وصدقه مريدوه، لقد تكشفت الكثير من الوثائق بعد 23 يوليو 1952م، ولو أن شيئا من ذلك حدث لما أخفاه الضباط الأحرار، فضلا عن أن الوثائق الأجنبية حول تلك المرحلة كشفت، والأهم من ذلك أن العلاقة بين الدول الثلاثة «بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة» لم تكن على هذه الدرجة من التقارب، فقد كانت أمريكا تسعى إلى إزاحتهما من المنطقة، ولا أفهم لماذا وقع اختيار البنَّا على مدينة فايد.. رغم أنها لم تكن مدينة رئيسية فى مصر، لماذا لا تكون الإسماعيلية، حيث مقر شركة القناة ولماذا لا تكون القاهرة أو الإسكندرية؟! ويشعر المرء فى كتابات الإخوان كأنهم وحدهم انشغلوا بالقضية الفلسطينية، وكانوا مهمومين بها، وضحوا من أجلها وعوقبوا بسببها واضطهدهم العالم كله لهذا السبب، والواقع أن ذلك أبعد عن الحقيقة، وفيه إصرار على إنكار جهود آخرين، قبل الإخوان، ولو راجعنا الوقائع فلم يكونوا هم وحدهم الذين انشغلوا بها ولا كانوا أول من اهتم بها، ولا أكثر من بذل جهدا أو تضحية، بل الصحيح إنه كما استغلت أطراف عديدة القضية الفلسطينية لإضفاء هالة من الوطنية والإخلاص على أنفسهم وتبرير أشياء كثيرة، فإن الإخوان أجادوا استغلال هذه القضية للتغطية على أعمال إرهابية قاموا بها وانتهازية سياسية مارسوها. ومنذ وقت مبكر، شغلت الصحافة المصرية وعدد من الكتاب بما يجرى على أرض فلسطين، كان ذلك منذ تسعينيات القرن التاسع عشر، وتواصل الاهتمام بها، وحين صدر وعد بلفور سنة 1917م فزع له كثير من المصريين ونددت به شخصيات عديدة، ولما وقع حادث البراق سنة 1929م ألقى عدد من الشخصيات المصرية بأنفسهم فى القضية وفى مقدمتهم محمد على علوبة، وشغلت الثورة الفلسطينية سنة 1936م المصريين جميعا، ونقرأ فى مذكرات لورد كيلرن أنه التقى مصطفى النحاس رئيس الوزراء على العشاء مساء 4 يوليو سنة 1937م وتحدثا عن المسألة الفلسطينية، يقول السفير «وأبلغنى بأنه لا يحبذ إطلاقا الاقتراح الخاص بالتقسيم، وأنه على ثقة من أن العرب لن يوافقوا على ذلك أيضا، وأكثر من ذلك فإنه كرئيس لوزراء مصر لا يمكن أن يتعاطف مع الاتجاه الداعى إلى إقامة دولة على حدود فلسطين»، فالنحاس باشا يبلغ السفير البريطانى فى مصر أنه يرفض فكرة تقسيم فلسطين وأنه لا يوافق على إقامة دولة لليهود فى فلسطين، ويواصل السفير حديثه عما سمعه من النحاس باشا «ويرى أن الحل الجذرى والمقبول هو إقامة حكومة عربية فى فلسطين ترتبط بإنجلترا بتحالف وثيق مع ضمان حرية الأديان لكل مواطنيها من اليهود والمسلمين والمسيحيين وغيرهم، فقلت له إننى أوافق على ذلك، إلا أن ذلك الاتجاه يتجاهل سلطات الانتداب والتى اعترفت بفلسطين وطن قومى لليهود»، ويقول السفير إن النحاس لم يهتم بقوله واستطرد قائلا: «إن فكرة الانتداب لم تكن بالفكرة الصائبة أصلا ويتعين التخلص منها».. أى أنه طبقا لرأى النحاس يجب أن تنهى بريطانيا الانتداب على فلسطين وتسلمها لأهلها كى تقوم فيها حكومة عربية. ونقرأ أيضا فى مذكرات السفير أنه التقى الملك ظهر يوم الجمعة 22 أكتوبر سنة 1937م حيث دار بينهما حديث وصفه السفير بأنه «ودى» وكان الحديث حول فلسطين، يذكر السفير بالحرف «وقال جلالته إن بلفور كان سخيفا عندما منح البعض وعودا بأشياء لا يملكها إذ أنها من حق أناس آخرين.. فقلت له إننى أوافقه الرأى فى ذلك»، ذلك هو رأى جلالة الملك بعد عام من توليه الحكم، وكان الملك نفسه، هو من أخذ على عاتقه السماح لمفتى القدس بالمجىء إلى مصر رغم أنه كان مطاردا من الإنجليز، وحين تأسست الجامعة العربية ويسعد بها الجميع بمن فيهم مرشد الإخوان يكتب د.طه حسين «عميد الأدب العربى» منبها إلى أن معيار بقاء ونجاح الجامعة الأكيدة هو فى ما تقدمه إلى فلسطين وعرب فلسطين فى محنتهم التى تهدد وجودهم. كان التعاطف مع قضية فلسطين رسميا وشعبيا، لم ينفرد به تيار أو حزب أو جماعة.. ثم تطور التعاطف إلى المناداة بجمع التبرعات وإرسالها إلى الفلسطينيين لمعاونتهم على مواجهة الصهيونية، ولم تكن هناك جهة بعينها تتولى الجمع، تبرع بعض الأعيان ونشطت «مصر الفتاة» و«الإخوان المسلمون» فى جمع التبرعات من أعضاء كل منها، ثم وقع خلاف ضخم داخل جماعة الإخوان، كان الخلاف بين مجموعة من الأعضاء مع المرشد العام حسن البنا، وكان ذلك مطلع عام 1940م، ونشر هؤلاء الغاضبون بيانا لهم فى مجلة النذير «أول فبراير 1940م» بعنوان «قضية فى سبيل الله.. موقفنا النهائى من جمعية الإخوان المسلمين»، أخذ فيه الغاضبون أربعة أمور على المرشد العام، حمل الأمر الثالث منها عنوان «التلاعب المالى» وفيه قالوا إنهم طلبوا إلى فضيلة المرشد تكوين هيئة قوية لمراقبة المال والمحافظة عليه وتكون الهيئة مسؤولة أمام الإخوان، لكن أعرض فضيلته وأصم أذنيه عن هذا القول الذى نعده طلبا عادلا يتفق مع أبسط مبادئ الإدارة»، وكان من نتيجة ذلك حدوث خلل وتجاوزات مالية فى عدة أمور، نتوقف نحن- هنا- عند ما ورد فيها متعلقا بالقضية الفلسطينية وننقله بالحرف الواحد: «قد جمع فى خلال عام أو أكثر على سبيل الاكتتاب من الشعب مبالغ لمساعدة فلسطين الشقيقة فى محنتها التى تجتازها وبلغ مجموع هذه الاكتتابات حسب بيان الأستاذ الأخير مبلغ 570 جنيها مصريا، ومما لا شك فيه أن هذا المبلغ يعتبر أمانة فى ذمة الإخوان فرض عليهم أن يؤدوها إلى أصحابها بمجرد وصولها إلى أيديهم، ومع ذلك فلم يصل إلى الفلسطينيين هذا المبلغ سوى 465 جنيها على ثلاث دفعات، أما باقى المبلغ فقد اعترف الأستاذ أن جزءا كبيرا منه أُنفِقَ فى شؤون الجمعية الخاصة ولا يرى فضيلته فى ذلك مانعا شرعيا، ثم عاد وقال بعد أن سمع حكم الشرع فى هذا إنه مستعد لجمع هذا المبلغ وإرساله، والمهم كذلك أنه لا وجد بخزانة الجمعية مليم واحد من هذا المبلغ أيضا». هذا البيان الغاضب وقع عليه 18 عضوا من الإخوان من بينهم عضو مكتب إرشاد سابق ومندوب شعب الأقاليم ومناديب عدة كليات بجامعة القاهرة وجامعة الأزهر وآخرون.. وهم المجموعة التى كونت جماعة شباب محمد صلى الله عليه وسلم». كانت الاتهامات قاسية وجارحة فى حق حسن البنا، بخاصة ما يتعلق منها بالمسائل المالية، فضلا عن بند آخر تعلق بالمسائل الأخلاقية، ولذا كان لا بد من الرد ونشرت مجلة الجماعة ردا على هذا البيان حمل توقيع الجماعة، لكن فى ما يبدو أن المرشد هو الذى كتبه، وجاء فيه بخصوص الجوانب المالية لفلسطين إن المبلغ المتبقى أنفق على أمور الدعاية للقضية، ولم يكن هذا مقنعا لأصحاب البيان الأول فضلا عن أن المرشد بذلك لم ينكر ما قالوه، ولذا فتح الرد المجال أمامهم ليعقبوا عليه ويضيفوا وقائع جديدة، وهكذا نشروا فى عدد 24 فبراير سنة 1940/ 16 محرم سنة 1359ه متهمين الأستاذ حسن البنَّا بأنه «شوَّه فيه الحقائق الثابتة تارة وتغافل عن بعضها تارة، محاولا بعد ذلك كله أن يحصر ما اختلفنا عليه فى نواحٍ شخصية ضيقة مبتغيا من وراء ذلك التغرير بالبسطاء والسذج»، وتوقفوا عند ما يتعلق بفلسطين والتبرعات لها، جاء فى البيان «أما أموال فلسطين فإنك تقول إن أعمال الدعاية لها وصلت إلى أكثر من 124 جنيها بينما أنك قد أعلنت أمام جمع كبير من الإخوان واعترفت صراحة بأنك صرفت على شؤون الجمعية مبلغ أربعين جنيها، وقلت إن هذا جائز شرعا، فرد عليك أحد الإخوان وهو محمد أفندى عبد الوهاب وأظهر ذلك أن هذه أمانة وأن الشرع لا يبيح التصرف فيها، ولا بطريق الاستدانة وحينذاك تراجعت عن رأيك الأول وقلت إذن فلنجمعها من جديد ولنرسلها، فقام أحد الإخوان وهو الدكتور إبراهيم أبو النجا وقدم جنيها مكتتبا به من هذا المبلغ وتذكر ما حدث من مسألة تمزيق هذا الجنيه بالذات»، ولم يتوقف السادة الغاضبون عند هذا الحد بل قالوا أو أضافوا «ثم إنك اقترضت من أموال فلسطين الخاصة بجمعية الشبان المسلمين مبلغ عشرين جنيها قرضا خاصا فى شهر أغسطس 1939م لم يسدد منهم إلى الآن سوى 9 جنيهات وباقى المبلغ ما زال حتى الآن فى ذمتك وقد اعترفت به أمام كثير من الإخوان». ويواصل الغاضبون توجيه الاتهامات إلى حسن البنَّا «أما ما ذكرته عن مبلغ 124 جنيها التى صرفت فى مطبوعات ورسائل وبريد وبرقيات وسفر مندوبين وطبع قسائم وعمل شارات وتذاكر شخصية وما إلى ذلك فإن جميع هذه الأبواب قد أنفق عليها من أموال فلسطين الخاصة والشهود على ذلك هم محمد أفندى السعيد فتح الله الذى كان يتولى جمع أموال فلسطين والصرف منها بأمرك، والشيخ محمد حسنين عمر والشيخ محمد الحسينى عبد الغفار والشيخ عبد البارى عمر خطاب والأفندية حسام عامر وأحمد فهمى فتح الله وشاكر الغرباوى ومحمد عزت حسن وعلى الحنفى الذين تسلموا نفقات سفرهم للدعاية لفلسطين ولتسليم الدفاتر للشعب من سعيد أفندى فتح الله، وبلغت هذه النفقات ما يزيد عن العشرين جنيها»، ويواصل البيان القول «وكان أمين صندوق الجمعية فى هذه الأثناء الحاج أحمد عطية وليسأل الحاج أحمد إن كان قد سلم إلى سعيد أفندى فتح الله أى مبلغ ليسلمه إلى هؤلاء الإخوان؟»، وعلى هذا النحو يستمر البيان فى سرد وقائع حدثت وأطرافها جميعا أحياء، وتؤكد الوقائع ضرورة الرقابة المالية المؤسسية لا التصرفات الشخصية للمرشد.. ويواصل القول «أما مصروفات طبع الطوابع والشارات والبطاقات الشخصية والبريد فقد دفعها سكرتير لجنة فلسطين محمد أفندى على المغلاوى ونتحدى أن تبرز لنا إيصالا واحدا من أمين صندوق الجمعية يثبت أنه دفع مليما واحدا إلى سكرتير اللجنة بمبلغ من هذه المبالغ، أما النشرات التى كانت توزع ومنها كتاب «هذا بيان للناس» فكانت ترد كما تعلم من طرف فلسطين رأسا». كانت الوقائع والحقائق صادمة ولا يملك المرشد ردا، ويبدو أنهم يئسوا منه تمامًا وفقدوا الثقة به، وصار بلا مصداقية عندهم، لذا وجدناهم يخاطبون البنَّا بالقول: «لكنك تنكر الآن ما اعترفت به علنا وأمام جمع من مريديك وأتباعك وتنكر الحقائق الثابتة فلا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم».. ويقولون له أيضا «إنك لم تكن أمينا على الحوادث فشوهتها أشد تشويه ولعلك ما زلت تذكر الحديث النبوى الشريف الذى يذكر أن المؤمن قد يغش وقد يسرق ولكنه لا يكذب قط» ويحمل التوقيع «الهيئة العامة لشباب محمد». المرشد العام متهم بما نسميه اليوم «الفساد المالى» أو جمع تبرعات ثم توجيهها إلى غير ما جُمعت له، وإلى وجهة غير التى أرادها أصحابها، وما يستوجب التوقف هنا أن المرشد ومريديه لم يتمكنوا من الرد على هذه الوقائع واكتفوا بالقول إنها خلافات خاصة وشخصية، ويلفت الانتباه أيضا سهولة استعمال الشرع فى الأهواء الخاصة وسهولة التحايل على الشرع كذلك، حسن البنَّا أخذ جزءا من التبرعات التى جاءت لفلسطين ووضعها فى حسابات الجماعة، وحين وُوجِهَ بذلك أفادهم بأن الشرع يسمح له بذلك، ولما اعترض أحدهم بأن الشرع لا يسمح وأن هذه الأموال أمانة يجب أن تؤدى إلى أهلها، قال الرجل ببساطة نعيد جمعها، لكن ماذا عن خيانة الأمانة؟ وماذا عن الافتئات على الشرع؟ وماذا عن أكل أموال وحقوق الآخرين؟ كل هذا لم يتوقف عنده المرشد العام ولم يهز شعرة داخله ولم يحرك ضميره، ترى ألا يمكننا القول إن حسن البنَّا وظف المسألة الفلسطينية لصالحه هو وصالح جماعته، بدلا من أن يحدث العكس؟! على العموم كانت هناك هيئات وجمعيات عديدة تجمع التبرعات لأهل فلسطين، وسارت الأمور فيها على ما يرام، وحدها الجماعة ووحده حسن البنَّا هو من طُعن فى أمانته المالية على الملأ ولم يستطع أن يرد، فما وُوجِهَ به وقائع ثابتة حدثت أمام آخرين، شهود عاليه، فضلا عن أن إيصالات الجمعية وحساباتها لم تكن فى صالحه. استمر جمع التبرعات وتحريك المظاهرات لمناصرة عرب فلسطين والتعاطف معهم، ثم حدث تحول نوعى فى طريق وآليات المساندة، وجاء هذا التحول من أحمد حسين رئيس «مصر الفتاة»، كان النضال قد تطور من جمع الأموال والتبرعات إلى شراء الأسلحة وإرسالها إلى المقاتلين داخل فلسطين، ولا يجب أن نتوقع الكثير عن هذه الأسلحة، فقد كانت بنادق ومسدسات من مخلفات الحرب العالمية الثانية، أى لم تكن أسلحة ثقيلة، لكن أحمد حسين رأى أن ذلك ليس كافيا ولا بد من تكوين كتائب من المتطوعين تذهب إلى فلسطين وتقاتل داخلها، وزار أحمد حسين فلسطين فى فبراير 1948م وعاد من هناك ليصرح لمجلة «المصور» بأن «القضية لا تحتاج إلى مال وسلاح فقط، بل إلى جيوش منظمة وقيادة عسكرية حازمة، لأن الفلسطينيين لم يستطيعوا سوى الدفاع عن أنفسهم فقط»، وبالفعل شكلت «مصر الفتاة» أول كتيبة من المتطوعين حملت اسم «مصطفى الوكيل» لتسافر إلى فلسطين، لكن الحكومة المصرية مانعت فى سفرها عبر الحدود المصرية، فما كان من أحمد حسين إلا أن بعث بالكتيبة إلى سوريا حيث معسكر «قطنا» لتدخل من هناك ودخلت بالفعل، والواقع أن حماس أحمد حسين كان عاليا، فقد واصل إرسال الكتائب وسافر هو مع إحداها بنفسه إلى سوريا قبل دخولها إلى فلسطين.. وقد سبق أحمد حسين الجميع فى ذلك، وهذا ما دعا جماعة «شباب سيدنا محمد» أن توجه التحية إلى «مصر الفتاة» وزعيمها على صفحات «النذير».. تحت عنوان «كلمة حق يجب أن تُقال.. مصر الفتاة تتقدم الصفوف»، وكلمة التحية حملت التقدير إلى «شباب مصر الفتاة ورئيسهم الأستاذ أحمد حسين، الذين هاجروا فى سبيل الله وتركوا أبناءهم وعشيرتهم جهادا فى سبيل الدفاع عن حق الإسلام والمسلمين»، وجاء فى المقال ملاسنة على الآخرين ومنهم الإخوان، تقول النذير «لقد ظلت الهيئات الوطنية والإسلامية فى مصر، تملأ الآفاق بدعوى الجهاد، والرغبة فى الاستشهاد، فلما حان وقت الامتحان لم نسمع من أكثر هذه الهيئات إلا الدعاوى العريضة، ولم نشاهد منها إلا المظاهر الزائفة، إلا مصر الفتاة فقد نجحت فى هذا الامتحان وأثبتت أنها فى مقدمة العاملين، وسارت فى صفوفها القليلة، فى عددها الكثير، برجولتها وبسالتها بأقدام ثابتة إلى ميادين القتال، بل إلى ميدان الجهاد الإسلامى الأكبر». فى ذلك الوقت كان موقف الإخوان وحسن البنَّا أقرب إلى الموقف الرسمى المصرى، أى الاهتمام بالقضية ومناصرة الفلسطينيين وجمع التبرعات لهم، ويبدو أن موقف مصر الفتاة وتنديد «شباب محمد»، قد أوقع حسن البنَّا فى ضغوط من أعضاء الجماعة، ولم يكن قادرا على اتخاذ موقف حاسم، لذا وجدنا عبد المجيد أحمد حسن الذى قتل محمود فهمى النقراشى سنة 1948، وكان عضوا بالتنظيم الخاص منذ سنة 1946م يقول فى اعترافاته فى أثناء التحقيق معه «اعتقدت كما اعتقد جميع أفراد النظام الخاص أن وقت الجهاد الذى من أجله نعد ونتدرب قد جاء وأننا سنرسل جميعا إلى فلسطين للقتال هناك، وكانت القيادة تبلغنا بأن الوقت سيأتى قريبا للجهاد»، ويقول عبد المجيد حسن أيضا «لما شعرت القيادة بشدة الضغط عليها، قالت لنا: إن الجهاد ليس مقصورا على فلسطين وإن الصهيونيين ليسوا فقط فى فلسطين، وإنما هم موجودون أيضا داخل البلاد المصرية، وإن على النظام الخاص أن يوجه إليهم نشاطه وجهاده».. وهكذا قرر النظام الخاص أن القتال يبدأ من مصر، وبذلك نقل المعركة من فلسطين إلى داخل مصر وبين أبنائها، ولعل ذلك يفسر الأعمال الإرهابية التى مارستها الجماعة والتفجيرات لحارة اليهود بالقاهرة، وبعض المحلات والمنشآت اليهودية.. وكان اختيار بعض هذه المنشآت مثيرا للشبهات، مثلا قام النظام الخاص بتفجير شركة الإعلانات الشرقية وكانت مملوكة لبعض اليهود، لكن أثار تفجيرها عددا من التعليقات فى الصحافة المصرية من بينها أن هذه الشركة جرى نسفها لأنها تنافس شركة المطبوعات الإسلامية، المملوكة للإخوان، أى أن الاعتبارات الخاصة والمنافسة المهنية لم تكن بعيدة عن هذه الأعمال.