أنا بلا قافية- شخص يتغذى على الأوهام. طبعى كده. حد عنده مانع؟ أفطر بها كل يوم مع قهوة الصباح، ولا تخلو منها فى الغداء مائدتى، ولا يداعب النعاس جفنى إلا بعد تناول الجرعة الليلية. التشخيص الطبى لحالتى هو: إنسان مقطوع الصلة بالواقع. توهمت مؤخراً أن مرسى ألقى خطبة فى 27 يناير 2013 بلغة الكتاتيب هى الأخرى، وأنها لا تختلف بالمرة من حيث المضمون عن الكلمة التى قالها المخلوع فى 28 يناير 2011. توهمت أن هناك من أطلقوا النار على جنازة تحمل 30 نعشاً إلى المقابر فى بورسعيد، وأن الملايين من بحيرة السد إلى مكتبة الإسكندرية خرجت تهتف ضد المرشد وجماعته ومرسيه. ولم يكن من قبيل الصدفة أن أحد أشهر عناوين مقالاتى الثابتة هو: هلوسة آخر الليل. حياتى باختصار هلوسة فى هلوسة. وقد سألنى يومًا واحد من الملتحين جدًا عن هذا الذى أكتبه، فقلت بينما أنا أشرب كوبًا ليبراليًا من عصير القصب: خليك فى نفسك أحسن يا مشيخة، وهو ما اعتبره خروجًا عما هو معلوم من الدين بالضرورة. كما أفتى على الفور بأن شرب عصير القصب يلهى العبد عن ذكر الله. لا أنكر أننى التمست له العذر، فالملتحى جدًا لم يكن فى الحقيقة يدافع عن القناعات التى تربى عليها. بل عن أكل عيشه. فجأة، توهمت أن إسرائيل سرقت أرض الشعب الفلسطينى فى عام 1948، وأن شيئاً فظيعاً حدث فى 5 يونيو 1967. كما توهمت أنهم أطلقوا على الأولى: نكبة. الثانية اختاروا لها اسما لطيفاً لا يتناسب مع بشاعتها هو: نكسة. زى تامر يعنى أو نيرفانا، أو راندا أو نشروان. كل واحد حر فى تسمية من ينجب على كيفه. تلك هى الديمقراطية... المأساة أن هذه الحالة أصبحت تنتابنى باستمرار. فلقد توهمت -ذات مرة- أن الإخوان أو مستخرجات الإخوان، على وزن مستخرجات الألبان، قاموا باغتيال العشرات من القادة أو الزعماء أو المفكرين، وأن التاريخ الأسود لهؤلاء بدأ مع الدكتور أحمد ماهر، ما لم تكن هناك جرائم أخرى أسبق. توهمت أنهم قتلوا القاضى أحمد الخازندار والدكتور محمود فهمى النقراشى وحكمدار القاهرة سليم زكى، فضلا عن المحاولات المتكررة لاغتيال مصطفى النحاس وجمال عبد الناصر. توهمت أنهم من قام بزرع القنابل فى دور السينما والمحال التجارية، مما أودى بحياة الكثيرين، وأن حسن البنا اعتاد أن يضع أمر القتل فى جيبه الأيمن وبيان الاستنكار فى الجيب الآخر، وأن الإرهابيين من مستخرجات الإخوان، قتلوا المئات من الناس بلا ذنب، وأن من بين الضحايا طفلة اسمها: شيماء، بالإضافة إلى المفكر الدكتور فرج فودة، أو السواح المسالمين أطفالا أو نساء أو شيوخا، وأن كاتبنا العالمى نجيب محفوظ قد كافأه البعض بالنيابة عنا بثلاث طعنات غادرة فى العنق. بل إنى توهمت فى مناسبة أخرى أن مئات الأبرياء يفقدون الحياة بسبب انهيار الأبنية فوق رؤوسهم أو جراء حوادث المرور التى صارت تلتهم البشر كأمنا الغولة، وأن على من يركب القطار أن يكتب وصيته أولا، وأن هناك من يسرقون الكحل من العين، متوارين خلف لحاهم. لا أدرى كيف استبد بى الوهم بأن فى بعض المدارس، التابعة لوزارة التعليم، من يحشرون فى أدمغة الأطفال أن رفاعة رافع الطهطاوى أو الإمام محمد عبده أو لطفى السيد أو طه حسين أو سلامة موسى أو قاسم أمين هم رؤوس الفتنة، وأن قراراً إخوانياً بحذف صور درية شفيق وهدى شعراوى وسميرة موسى وغيرهن من المقررات، علشان مايصحش يتكشفو على حد. إلا أن الحالة تدهورت بشكل مخيف على مدى الشهور السبعة الماضية. إلى درجة أننى توهمت أن الدنيا برد، وأن الأسعار باتت تشوى الكافة، باستثناء الملتحين الذين يستولون على كل شىء، وأن تليفزيون الحكومة أصبح إخوانيًا أكثر من المرشد، لأن هناك من يعيشون من عرق النساء، تباهيًا بالرجولة، ولا يفرق بين الزوجة والجارية، مادام هو يشرب الينسون على القهوة، فيما ينهمك فى الحديث عن نقائص المرأة أو حق الذكور فى ضرب الستات بالجزمة على دماغهن من باب مداراة السلوك الأنثوى أو الحنجرة المخنثة التى تكشف سر العجز الجنسى، طبقا لمقولة علم النفس الشهيرة: لا يضرب زوجته إلا العنين، لأن مجرد وجودها يذكره بعجزه. أوهامى كلها من النوع البعيد تماما عن الواقع المعاش. كلها. فلا المواطن، كما أتوهم، يشكو من الزحمة أو ضيق ذات اليد أو كسرة النفس. لا أحد يعانى، كما أتوهم، من البحث عن شقة تلمه أو هدمة بسعر متاح لطفلين أو ثلاثة يتعلقون برقبته. وقد حلمت -ذات ليلة- بأننى فراشة لا تقترب إلا من الأزهار المرة المذاق، لتنتهى فى آخر المطاف محترقة بالنور الذى أشعلته. ولم أدرك عندما استيقظت: هل أنا إنسان حلم ذات ليلة بأنه فراشة أم أننى منذ أول العمر فراشة تحلم بأنها إنسان؟ على أن المصيبة الكبرى هى حين توهمت أن هناك من يريد أن يهدم كل التماثيل، باعتبارها من الأصنام، وأن تدمير المعابد الفرعونية واجب، وأن الفكر حرام، والفن حرام، والحرية أو حقوق الإنسان من الكبائر. البعض يطالبون بالذهاب إلى مالى لتحريرها من الكتيبة الفرنسية. لم أسمع منذ فترة طويلة من يطالب بتحرير القدس. منذ فترة تملكتنى نوبة الوهم. تخيلت أن فضائح ونيس والبلكينى ليست أكثر من عينة، وأنه لا بد أن يأتى يوم نطلق فيه على أكوام الفضائح التى مازالت طى الكتمان: من ده بكره بقرشين. وعلى الرغم من جميع محاولاتى التى باءت كلها بالفشل، عندما لم أستطع أن أتوهم أننى مجنون. ما أتمناه هو أن أتوهم أقرب مما يتصور البعض أن كل هذه الفظائع أصبحت من الماضى. أوهام. بالضبط كضياع القدس أو موت الأطفال على شريط السكة الحديدية فى منفلوط. أوهامى التى جللت القلب بلون الحداد قبل أن أتعلم معاكسة بنت الجيران. أوهامى الحزينة التى لا يبدو أن هناك أملًا فى أن أشفى منها.