استيقظت فجأة لأجدنى فى بلد عجيب.. بلد عمرى ما تصورت أصلا أنه موجود حتى داخل كتب السحر الأسود.. كل الساعات متوقفة كلها بدون استثناء بما فى ذلك ساعة الجيب التى أظل أتوهم أنها أثرية بينما هى فى الواقع قديمة فقط.. ولم أكن نائما فكيف داهمنى الإحساس بأننى استيقظت؟ شىء ما له علاقة بالضوء أشعرنى بأننا لسنا على أى حال بالنهار أو بالليل ربما فى أواخر المساء نظرا لأن الألوان الزاهية التى من المفترض أن ترتديها البنات فى هذه السن الربيعية بدت شديدة القتامة ضد ما هو منطقى كما لو أن ما بداخلهن من الإحساس بالقهر أو المهانة انتقل إلى الثياب. كُنّ يجرجرن أقدامهن المحشورة داخل شباشب السابو. يجرجرنها من التعب أو اليأس بينما الرجال يسيرون أمامهن كالديوك المنفوشة على الآخر. كنت منقبضا بلا سبب أعرفه: أنا فين؟ لا أذكر بأى لغة طرحت السؤال أو لماذا أو على من.. الشىء الوحيد المؤكد هو أن صوتى لحظتها بالتحديد بدا لى غريبا كما لو أن شخصا آخر هو الذى يتكلم. إيه اللى جابنى هنا؟ تمتمت فى سرى ساخرا: قال يعنى كنت عرفت إيه اللى جابنى هناك! وعلى الجدران مئآت الآلاف من البوسترات لرجلين لا فرق بينهما خُيل إلىّ أننى رأيهما من قبل لكننى لم أتذكر أين أو كيف أو متى أو لماذا أو فى أى المناسبة. الشعور الذى استبد بى هو أنهما لا يبعثان على الارتياح، وأن شيئا ما فى ملامحهما ينذر بالشؤم. أحدهما بدا لى على نحو ما صورة طبق الأصل من حسن الترابى أو الملا عمر. الثانى يشبه إلى حد ما دكتاتور بيرو: ألبيرتو فوجيمورى الذى جاء بالانتخابات ثم ذهب بثورة شعبية. جماعات من الملتحين يهللون للأول على حين تهتف الجماهير العادية باسم الآخر. لم أفهم شيئا من كل هذا الصياح. عبثا يحاول الناس الذين يعانون من سوء التغذية أو تشكيلة الأمراض المتوطنة الأخرى أن يتفادوا الوقوع فى الحفر أو البالوعات أو على الأقل تجنب الاختفاء داخلها. كل من تصادف وجودهم بالقرب من هذه الوزارة أو تلك انهالت عليهم هراوات جنود الأمن المركزى أو الشرطة العسكرية أو البنادق السريعة الطلقات التى يقال دائما إنها لا تُستخدم، وأن هناك طرفا ثالثا يسميه أفراد الشعب باللهو الخفى هو الذى يصوب الرصاص الحى إلى الصدور والمطاطى إلى حبات الأعين. المتظاهرون أو الثوار لهم معاملة أخرى لا تختلف كثيرا أو قليلا عن جستابو هتلر، هنا أيضا يرتكبون هذه الفظائع! الظاهر أننا لسنا الوحيدين الذين يعيشون فى هذا الجحيم. هل تتشابه المناظر من بلد إلى آخر بكل هذه الجزئيات التفصيلية؟ أنقاض المبانى التى أشعل البلطجية فيها النار خلال الليلة الماضية بكل ما تخفيه تحتها من أحياء يطلبون النجدة بأصوات مختنقة سرعان ما تنطفئ الواحد تلو الآخر، ما عاد منظرها الكئيب لحسن الحظ يضايق المسؤولين عن البلد، فلقد دارتها عن العيون جبال الزبالة التى يحميها رجال الأمن الوطنى، مباحث أمن الدولة سابقا، من اقتراب الفضوليين ممثلى منظمات حقوق الإنسان أو كاميرات التليفزيون ذات الأجندات الأجنبية لولا أن ربات البيوت يصورن كل شىء بالموبايل ليظهر بعد دقائق على اليوتيوب، كأنى عشت أحداثا كهذه بالضبط فى مكان ما! صدق من قال إن الدنيا أصبحت قرية صغيرة. بل ربما حارة ضيقة يسمع الجيران من خلف الحوائط كل ما يجرى من أمور بالغة الخصوصية فى الشقق الأخرى. حكى لى سائق تاكسى فى العقد السادس من عمره أو ربما أكثر أنه كلما ظهر أن الاختيار الوحيد أمام من يتصارعون على السلطة هو إما أن يتصرفوا كالرجال الذين يتمتعون بالحد الأدنى من الوطنية أم لا فإن الإجابة دائما هى لا. قال إنهم يفعلون ذلك بكل إباء وشمم. ثبات على المبدأ أثار إعجاب العدو قبل الصديق، تمسك بالموقف أذهل حتى المتخصصين فى سيكلوجية القتلة بالريموت كونترول، إصرار غير عادى قلما يجود الزمان بمثله على الاستماتة دفاعا عن المكانة الفريدة التى انتزعوها بكل استحقاق فى قاع بالوعة التاريخ، فلقد تمكنوا من ابتداع منظومة أخلاقية خاصة تجبّ كل ما عرفه الإنسان على مدى تاريخه الطويل، منظومة أخلاقية تعتبر أن الكرامة تهور، وأن الحرية استهتار، وأن الثورة مغامرة وخيمة العواقب. منظومة أخلاقية تؤمن بأن الصدق يكمن فى ما يحقق المصالح الفردية أو الجماعاتية الرخيصة. منظومة أخلاقية ترى أن الوصول إلى الحكم هو أغلى أمانيهم وأن الوفاء بالعهود بلاهة تؤخر التكويش على حتى أرواح الناس وأن الخطوة الأولى نحو النصر هى خداع الآخرين وأن إلقاء مفاتيح المدن والقرى وبيوت الآمنين وحضانات الأطفال تحت قدمَى صاحب الجلالة المرشد ملك قبيلة الإخوان هو الموقف الذى يليق بضحايا هذه الخرافات من الشباب المغيبين. لا أدرى لماذا بينما أنا أستعرض العناصر الأساسية فى منظومة هؤلاء الأخلاقية الخاصة خطر على بالى: اسم مهنة. المرأة الأربعينية التى لوحت لى من داخل سيارتها فى الإشارة خُيل إلىّ أننى أعرفها. الظاهر أن من أجرى لها جراحة تجميل فى الأنف كان نجار مسلح، فلقد استبدل مشربية الوجه بالألوميتال، العينان البنيتان الغامقتان كحبات الكستناء عندما تنضج، اخضرتا بفعل العدسات اللاصقة. قريبة الشبه كانت من المرأة التى أعرفها لكنهما ليستا نفس الشخص. الشرطة تسرع بضرب الناس قبل أن تبدأ المظاهرة أو حتى يتجمع المشاركون فيها، ثم يعلن المتحدث الرسمى باسم الداخلية أن شباب الثورة كانوا يعتزمون بزجاجات الماء البلاستيكية اقتحام مقر الوزارة. من جهاز راديو صغير مع فتاة يجرى خلفها أربعة جنود، أسمع أم كلثوم تصرخ: يا دولة الظلم انمحى وبيدى! لا هى انمحت ولا بادت. إذن فنحن فى مصر: عملتوا فيها إيه يا ولاد ال…