العميل السرى، بهيئته التقليدية تلك المتعارف عليها سينمائيا، أخذ -على ما يبدو- ينقرض. كل العملاء أصبحوا -على ما يبدو- علنيين. ما الذى يمكن أن تعنيه كلمة: عميل؟ إن لم يكن هو الشخص الذى يتعامل مع العدو ضد أمن بلاده أو مصالحها العليا، فماذا عساه يا هل ترى يكون؟ ربما كان مهندسًا أو طبيبًا بيطريًّا أو بتاع تحاليل. ربما كان نصابًا ماكملشى تعليمه يدّعى أنه من مشايخ الأزهر، أو قوادًا بالليل، على حين هو بالنهار بائع كتب قديمة اصفرَّت أوراقها أو عطور مغشوشة، أو ربما بلطجيًّا يؤجر نفسه لمن يدفع أكثر. العملاء العلنيون، أصبحنا نراهم أينما ذهبنا يتسللون تباعًا ليشغلوا المواقع المفصلية الحساسة فى المجتمع. يطلون علينا من الصفحات الأولى بالجرائد الحكومية أو شاشات التليفزيون الموجهة، أو الموجهة بشرطة، ليحدثونا عن الحاضر الجميل الذى نعيشه منذ ما يقرب من سبعة أشهر، أو عن المستقبل الأروع الذى ينتظرنا طالما نحن نجدد الثقة فى المرشد ونائبه وواليه على مصر برتبة رئيس جمهورية. يقسمون لنا على المصحف أنهم يحترمون استقلال القضاء، الوجوه الملمعة بسائل تنظيف زجاج النوافذ أو اللحى التى تبدو كشعر المنشّة، صار أصحابها نجوما، يوزعون علينا هذه الابتسامات التى أبدًا ما فهمنا، رغم طول السنين، هل هى مخلوطة بالكذب الأصفر؟ أم أنها تعكس ما بالداخل من شماتة؟ بالطبع أنا لا أتحدث هنا عن الجواسيس الذين يفشون أسرار الدولة، عسكرية كانت أو متعلقة -على أى نحو- بالأمن القومى أو مصالح الوطن العليا، فهؤلاء كما هم لا يتغيرون. غاية ما فى الأمر أن أعدادهم انخفضت بشكل ملحوظ، نظرا لقيام الأقمار الصناعية بأغلب المهمات التى كانت توكل إليهم، وأن الأجور شهدت قفزات فلكية بسبب غلاء المعيشة. أو مائة دولار فى الخمسينيات أو الستينيات، لا بد أن يشترط الآن -نظير الخيانة لبلاده- الحصول على مبالغ خرافية تتمشى مع آليات السوق. ومع هذا، فإن من ارتضى أن يطرح نفسه للبيع، يظل -مهما ارتفع الثمن- رخيصا. العملاء هم من أقصد، أولائك الذين يخربون جهاز المناعة فى جسد الوطن. مصر، كأى بلد آخر، تحتاج إلى جهاز مناعة ذكى وشفاف. ذكى حتى لا يرفض زرع الكبد الذى بدونه يغدو الموت محققا. وشفاف، لكى لا يغض البصر عن جيوش الفيروسات الوهابية التى لا يؤدى تسللها إلا إلى أن يجنى البعض الثروات الطائلة، بينما البلد -من طول ما عانى- أصبح جلدا على عظم. العملاء هم من يريدون لجهاز المناعة فى جسد الوطن أن يطرد كل ما له علاقة بالديمقراطية وحقوق الإنسان والتقدم والعدالة الاجتماعية، وأن يسمح فى المقابل بمرور أدوات التنصت على المعارضين أو السلاح المتطور لميلشيات الإخوان، فضلا عن الاستمرار فى تزويد العدو بالغاز المدعوم وتكنولوجيا الفساد وتزوير الانتخابات، بالإضافة إلى السياسات التى دمرت التعليم، كحذف اسم السيدة الوطنية الفاضلة درية شفيق من المقررات الدراسية، لمجرد أنها بلا غطاء رأس. معنى ذلك أنهم سيحرمون قريبا الأطفال من معرفة تاريخ كفاح المرأة، وأن النماذج المضيئة سوف تختفى جميعا من الكتب المدرسية. لن تكون هناك د.سهير القلماوى، أو عالمة الذرة سميرة موسى، أو الصحفية الرائدة أمينة السعيد، أو أم كلثوم. لن يتعلم أطفالنا إلا تاريخ الأخوات الذى يمكن تخليصه فى كلمتين: طاعة المرشد. البلد بدأ يرتمى فى ظلمات العصور الوسطى. البلد اتخذ شكل المأتم المستمر إلى غير ما نهاية. إلى درجة أن الناس أصبحوا يعيشون الحياة من باب أداء الواجب، ليس إلا. سيما أوانطة. هاتوا فلوسنا. المفروض الآن أن يكون هذا هو هتاف الجماهير من بحيرة السد إلى مكتبة الإسكندرية. هاتوا شهداءنا الذين سقطوا دفاعا عن الحرية والخبز والكرامة الإنسانية. أعيدوا لكل من فقد بصره بالرصاص المطاطى أو الخرطوش نور عينيه. أعيدوا إلينا المفقودين الذين لا ندرى عنهم شيئا حتى هذه اللحظة. هل هم على قيد الحياة؟ أم أنهم يرقدون فى إحدى تلك المقابر الجماعية المجهولة العنوان؟ كيف ستستطيعون محو آثار الأيام البشعة التى قضاها المعتقَلون الأبرياء خلف قضبان الزنازين العسكرية؟ هل هناك من يقدر على مسح دموع البنات اللائى نعرف الآن من هم الذين يتحرشون بهن؟ هل هناك من يقدر على إزالة هذا الاعتداء الحقير ضد أشرف الفتيات؟ بأى وجه ستعتذرون إلى أمهات شهداء بلطجة الاتحادية؟ بأى وجه؟ سيما أوانطة. هاتوا الأحلام المسروقة والدم المراق بلا ثمن؟ هاتوا أعمار الثائرين قبل انهزام الروح! على أيديكم المتوضئة بالدم. كان فيلما ساقطا فعلا، فتبادلوا التهانى فيما بينكم يا حكام الزمن المنحطّ! يا من جمّلتم الوجوه القبيحة وبررتم المذابح والخيانات. فجأة، يكتشف الجمهور أن شاعر العامية الممعن فى مصريته، ليس كما صوَّره مثقفو المؤسسة. فجأة، يكتشف الجمهور أن شاعر العامية -الذى أشبعه تمجيدا واحد من ألمع كتاب القصة القصيرة فى مصر- ما هو إلا جاسوس إسرائيلى اسمه الحركى: نبيه سرحان! ولم يخجل أحد، ولا شعر بالحرج، ولا راجع أفكاره الشمعية الميتة. يكتشف الجمهور هذه الحقيقة حين يراه فى استقبال السادات بمطار بن جوريون، ولا أحد يعرف اسمه بالعبرية. أعلم أن الأمر -من شدة قبحه- يبدو كالتشنيعة. لكن أسوأ ما فيه هو أنه حقيقى. مشاهد ناطقة بالعار كهذه، تتكرر حاليا على مرأى ومسمع من الجميع. والأغرب أن أبطال هذه المساخر -أو ما يعادلها من حيث الهوان- هم الذين يدعون الإسرائيليين من أصل مصرى إلى الإقامة معنا هنا فى قلب القاهرة، بالرغم من أن هؤلاء الصهاينة قتلوا آلاف المصريين خلال حربين هما نكسة 1967، ثم فى 6 أكتوبر 1973. فجأة يكتشف الجمهور أن الفتاة المنقبة هى نفسها التى ألقت الشرطة القبض عليها متلبسة بالفعل الفاضح فى الطريق العام مع صاحب اللحية الطويلة ونيس، وأن من يكذب جهارا نهارا لأنه يريد أنفا غير الذى عنده هو صاحب لحية آخر اسمه: أنور البلكيمى. ظهرت كلمة: النهاية. فهل تعرفون يا أحباء الظلام معنى ذلك؟ معناه ببساطة أن الوقت قد حان لتضاء الأنوار.