ربما كان أهم إنجاز لجمال عبد الناصر هو إدراكه أن هذا الشعب العظيم قادر على صنع المعجزات حين تتهيأ له الظروف، وتتضح أمامه الرؤية، ويمتلك زمام المبادرة، وحين تكون الأهداف واضحة، والصفوف متحدة، والقيادة قادرة على إنجاز مهامها. فى حرب 56 لم يكن أحد فى العالم يتصور قدرة مصر على مواجهة إمبراطوريتين بحجم فرنسا وبريطانيا ومعهما الكيان الصهيونى. لكن عبد الناصر كان يثق فى أن الله لن يخذل شعب مصر وهو يدافع عن حقه، ويسترد قناة السويس ممن اغتصبوها، وينهى استعمارا كبل إرادة مصر لسنوات طويلة. وعندما بدأنا ملحمة بناء السد العالى فى نفس الوقت الذى كنا نقيم آلاف المصانع ونخطو نحو نهضة حقيقية فى كل المجالات، كان يعرف حجم التحدى، ولكن كان يعرف أن الشعب الذى أنهى عصر الاستعمار القديم وفتح أبواب الحرية للعالم العربى والعالم الثالث كله قادر على قهر التحدى.. وهو ما كان. وعندما تلقينا الهزيمة المروعة فى عام 1967، لم تنكسر إرادة الشعب، كان الألم لأننا تلقينا هزيمة لا نستحقها، ولكن كان الإصرار على أننا قادرون على رد اللطمة وتصحيح الأوضاع. وسوف تظل ملحمة إعادة بناء الجيش وخوضه حرب الاستنزاف العظيمة وإعداده لتحقيق النصر فى أكتوبر.. واحدة من أعظم صفحات النضال المصرى فى كل العصور. ومثلما كان عبد الناصر يثق فى قدرة هذا الشعب العظيم على صنع المعجزات وقهر التحديات، منح هذا الشعب ثقته الكاملة لقائده وزعيمه. ولم تكن هذه الثقة من فراغ، ولم تكن أيضا «شيكا على بياض» ليفعل ما شاء. وإنما كانت الثقة بنت التجارب، وكان الحب بقدر العطاء، وكان ما بين الشعب والقائد ميثاق على بناء الدولة التى تستحقها مصر، وصنع المستقبل الذى يليق بشعبها. كان بين الاثنين ميثاق على دولة حديثة متقدمة، تقود أمتها العربية وتفتح أبواب المستقبل. دولة تنحاز للفقراء وللعدل ولكرامة الإنسان فى وطن مستقل استقلالا حقيقيا، وليس «استقلال» التابعين الزاحفين على بطونهم من أجل نيل رضا «الحليف الاستراتيجى»، المستعدين لسحق الفقراء من أجل دخول نعيم قروض صندوق النقد الدولى!! لقد رحل عبد الناصر إلى جوار ربه قبل أكثر من أربعين عاما، وتم الانقلاب على المشروع الوطنى والقومى الذى قاده، وشنوا على ذكراه أبشع الحملات، ومع ذلك ظل الرجل يسكن فى قلوب الملايين وهى تسعى للخلاص من أنظمة باعت كل شىء لتبقى جاثمة فوق صدور شعوبها. على مدى السنين، ومع استمرار حملات تشويه الرجل حتى بعد رحيله.. لم أكن أتعجب من قدرته- رغم الغياب- على أن يكون أكبر الحاضرين، ولكنى كنت أتوقف كثيرا أمام قدرة هذا الشعب العظيم على النفاذ إلى جوهر الأشياء، ورفضه القاطع لتزييف إرادته أو لتزوير تاريخه. كان الغريب أن تسمع نفس الحديث عن عبد الناصر من فلاح بسيط فى عمق ريف مصر، أو من فلسطينية فقيرة فى معسكر للاجئين!! وأن تجد ربما نفس الكلمات على لسان مجاهد فى الجزائر أو عامل فى المحلة!! وأن يفاجئك مواطن فى العشوائيات بنفس حديث رجل صناعة الاستقلال الوطنى وكرامة العيش وهو يتحدث عن عبد الناصر. فى ميادين التحرير، كانت صور عبد الناصر هى الوحيدة التى ارتفعت بجانب شعارات الثورة فى الحرية ولقمة العيش وكرامة الإنسان. كان ذلك إعلانا من الجماهير الواعية بأن الثورة جاءت لتستكمل الطريق، وتصحح الأخطاء التى استغلها الأعداء لضرب المشروع القومى الذى قاده عبد الناصر لإقامة الدولة الحديثة على أسس من الحرية والمساواة وكرامة الإنسان والعدل الاجتماعى. بعد عامين من الثورة نجد فى مقعد الرئاسة مواطنا ما كان ليكمل تعليمه لولا فدادين الإصلاح الزراعى من ثورة يوليو لوالده، ولولا مجانية التعليم والفرص المتكافئة، ومع ذلك يقول لنا «وما أدراك ما الستينيات»!! يظل جوهر الصراع كما هو: مصر المستقلة أو التابعة؟ مصر المنحازة لحقوق الفقراء أو مصر التى يسيطر على اقتصادها السماسرة والوكلاء؟ مصر التى تقيم قلاع الصناعة الوطنية، أم التى تكتفى بمحلات «السوبر ماركت» وتفتح أسواقها لصناعات الآخرين؟ مصر التى تستغل مواردها البشرية والمادية لتقدم نموذجها فى التنمية المستقلة، أو مصر التى تعيش على القروض، وتخضع لشروط صندوق النقد؟ مصر التى يتمتع مواطنوها بحقوقهم كاملة على قدم المساواة، أو مصر التى تقهر المرأة وتصادر الحريات وتصدر فيها الفتاوى بتحريم تهنئة الأشقاء فى الوطن بعيدهم؟ مصر التى استعادت قناة السويس وبنت السد العالى، أو مصر التى تعرض كل شىء للبيع، أو للإيجار.. مع اشتراط أن تكون العقود «حلالا» هذه المرة؟! تحية لعبد الناصر فى يوم مولده، وللشعب الذى لا يعطى ثقته إلا لمن يستحق، ولوطن سنبنيه معًا بالحرية والمساواة، وبالعلم والعمل، ورغم مؤامرات خاطفى الثورة والمنافقين.. وما أدراك ما المنافقون!!