أحيانا أجد نفسى أتساءل: هل تراجعنا، ليس عن الإبداع فلا يمكن لمصر أن تترك مكانتها فى ظل أى نظام يكره إلى درجة التحريم الفنون، ولكن أتوقف أمام السماح الرقابى الذى أراه وهو يتقهقر خطوات للخلف دُر. فى مهرجان القاهرة الأخير على سبيل المثال كانت هناك مراعاة للحكومة الإخوانية بتلك الحجة، وهى عدم الاستفزاز. بل إننى أرى أن استحواذ وزارة الثقافة مجددا على المهرجان هو ضربة استباقية من الدولة لكى تُقدم كل الفاعليات فى السنوات القادمة على الطريقة الإخوانية. ربما لم يعلن أحد مثلا من قبل عن تراجع المهرجان فى اللحظات الأخيرة عن الإعلان عن تكريم إلهام شاهين، والأمر هنا ليس متعلقا بمن تم اختياره بدلا منها، يستحق أو لا يستحق فهذه قصة أخرى، ولكن التراجع يحمل الكثير من الخوف والمراعاة لخواطر التيار المتزمت الذى هاجم بعض رموزه إلهام شاهين بكلمات تضع قائلها تحت طائلة القانون، صعود إلهام إلى خشبة المسرح فى هذا التوقيت كان يعنى تحديا ومواجهة مباشرة، لهذا آثروا الانسحاب. أصبحنا، شئنا أم أبينا، نعقد مقارنات بين ما نراه وما يمكن أن يجرى فى بلادنا. شاهدت فى افتتاح مهرجان دبى «حياة باى» للمخرج الصينى «إنج لى» الذى أصبح واحدا من أساطير السينما فى العالم. الفيلم يروى طفولة البطل عرفان خان واسمه «باى» ويؤدى دوره فى مرحلة المراهقة سوراج شارما، عرفان نراه فقط وهو يسترجع تفاصيل حياته. الفيلم فى جزئه الأول يتناول طبيعة الإيمان بالله، ومن خلال الهند المتعددة اللغات والأعراق والأديان الهندوسية والمسيحية والإسلام وغيرها. الفيلم فى نهاية الأمر يرى أن كل الأديان سماوية أو غير سماوية تعتبر طرقا للإيمان بوجود الله والتواصل معه، فهو الواحد القادر، لا أتصور أن الرقابة فى مصر الآن من الممكن أن تمرر بسهولة هذا الفكر. وحتى يصل المخرج لتحقيق هذا الهدف فإنه فى الجزء الأول من الأحداث يغلّف انتقال الطفل المراهق بين أكثر من ديانة بأسلوب ساخر، كل منها تحاول أن تكتشف ملمحا خاصا فى تكوينه النفسى إلا أن المخرج فى نهاية الأمر ينتهى إلى الإيمان، لا أتصور أن مثل هذا الفيلم من الممكن أن نشاهده كاملا فى مصر حتى ولو فى إطار مهرجان يسمح بطبيعته بمساحات خاصة فى جرأة التناول. ويبقى الفيلم الذى لم يتوقف عند علاقة المراهق بالدين ولكنه انتقل أيضا إلى التعايش السلمى بين مختلف الكائنات من خلال تلك العلاقة التى شاهدناها وهى تنمو بين النمر وبطل الفيلم عندما قدم له قطعة لحم قرأ فى عينه قدرا من الامتنان ولكن والده حذره من تلك النظرة التى ربما لا تفصح عن طبيعة النمر وضرب له مثلا عمليا بأن وضع أمام القفص غزالة وديعة فانقضّ عليها النمر وأنهى حياتها فى لحظات. الرحلة أو الحلم بالسفر إلى أمريكا سيطر على الأب وهو لا يمتلك من الدنيا سوى تلك الحيوانات فهى رأس ماله القرد والضبع والحمار الوحشى والنمر البنغالى. كان المراهق متشبثا أكثر بأرضه، وقال لوالده عندما أراد أن يذكره بالبحَّار المغامر كولومبس الذى اكتشف أمريكا فرد عليه قائلا إن كولومبس كان يريد الذهاب إلى الهند لا الخروج من الهند. تغرق السفينة فى المحيط ولا يبقى سوى «باى» ومعه الحيوانات التى حاول إنقاذها ونرى أن جميع الكائنات الحية تتساوى فى الحرص على الحياة وتصاب الحيوانات بدوار البحر ويصعب السيطرة عليها، خصوصا الضبع الذى يقتل الحمار الوحشى والقرد، وفى النهاية يأكله النمر، لأن البقاء للأقوى. الفيلم الثلاثى الأبعاد يبهرك فى تفاصيله المخرج «إنج لى» الذى برع فى توظيف التقنية الثلاثية لتصبح معبرة عن ضرورة إبداعية لا براعة تكنيكية فقط، العلاقة بين النمر وباى هى الرباط الوحيد الذى يجمعه مع العالم. ويتجذر بينهما هذا التعايش بعد أن ظل باى طوال الأحداث يبحث عن النجاة من النمر وفى نفس الوقت يريد الحفاظ عليه، فهو آخر أمل له فى أن يلتقى مع كائن حى من الممكن أن يشعره بوجوده فى الحياة. وفى النهاية عندما يصل إلى شاطئ به أدغال يتركه النمر بلا حتى نظرة وداع. الحياة لم تتوقف، حيث نكتشف أن البطل استطاع أن يعبر هذه المحنة وصار لديه حياة وزوجة وأبناء. ويبقى السؤال: هل تملك الرقابة المصرية الجرأة فى ظل تغلغل المتزمتين لعرض «حياة باى»!!