هذا عنوان كتاب مفكرنا الكبير الدكتور مراد وهبة، فمن خلال مجموعة من المقالات الفلسفية الرائعة، يعرض لنا أستاذنا بأسلوبه الشائق، وفكره المتسق، ومنطقه المنظم، حقيقة نسبية الأفكار الإنسانية عموما، كما يبين لنا الأخطار العظيمة المترتبة على اعتقاد البعض منا، أنهم يملكون وحدهم الحقيقة المطلقة، فتكفير الآخرين، إنما ينبع من التأثر بهذه العقيدة الخاطئة، كما أن فكرة القتل، أو حتى الحرب، تعد من بنات أفكار منظومة امتلاك الحقيقة المطلقة، وكم نحن الآن فى أشد الحاجة إلى فكر مراد وهبة، خصوصا فى هذا الجانب المهم، من جوانب رؤيته التنويرية، فلا يصح أبدا لأبناء مصر، بعد ثورتهم المجيدة، وهم يسعون معا إلى بناء دولتهم الجديدة، على قيم الحضارة والرقى والتقدم، أن يتصور بعضهم أنه يمتلك وحده الحقيقة المطلقة، وأن الآخرين جميعا على ضلال مطلق. يقول د.مراد وهبة «إن الثورة قد تسقط طاغية، ولكنها لا تستطيع أن تغير أسلوب التفكير». وهذه عبارة صحيحة بلا شك، وها نحن نعيشها اليوم، بعد ثورة أسقطنا بفضلها ديكتاتورا فاسدا، وبقى أمامنا كثير من أساليب التفكير المتخلفة المتفشية فى مجتمعنا، بسبب نظم حكم عسكرية مستبدة تعاقبت علينا، ومن ثم فطرق التفكير السائدة بحاجة إلى ثورة أخرى على المستوى المعرفى، أو الثقافى بحيث يتحرر العقل المصرى من قيود كثيرة تكبله، وتعيق حركته، وتمنع انطلاقه. ويقول مفكرنا عن نفسه «أخذت على عاتقى لصياغة رؤيتى الفلسفية، اقتفاء صعود وسقوط التصورات الفلسفية المتعاقبة، فتاريخ الفلسفة هو صراع بين مطلقات، أو علاقة جدلية بين المطلق والنسبى، أو بين المذاهب المغلقة، والمذاهب المفتوحة». وهذه التوليفة السائدة فى تاريخ الفلسفة، كما يراها مراد وهبة، صورها فى كتابين مهمين، الأول «المذهب فى فلسفة برجسون»، (1960)، والآخر «قصة الفلسفة»، (1968). ويحدد أستاذنا الفكرة المحورية فى فلسفته، بالنضال ضد الروح الدوجماطيقية. والدجما (dogma)، هو المعتقد الراسخ، والذى يتوهم صاحبه أنه يمتلك الحقيقة المطلقة، فيسعى إلى إخضاع الواقع لهذه الحقيقة، فيمنع التغيير تماما، ويعيق الإبداع الإنسانى فى شتى مناحى الحياة. وفقدان الثقة فى الدوجماطيقية، يفسر لنا انبهار د.مراد بمذهب الفيلسوف برجسون لفترة طويلة من الزمن. فقد بذل برجسون جهدا بارزا فى المحافظة على اللادوجماطيقية، وذلك بتأسيس مذهب مفتوح. ويربط مفكرنا بين المذاهب الفلسفية، والنظم الاجتماعية السائدة، إذ يرى أن بنّائى المذاهب الفلسفية، فى تاريخ الفكر الإنسانى، هم إما مبررون للوضع القائم، أى أصحاب مذاهب جامدة ومغلقة، وإما ممهدون لوضع قادم يستند إلى مذاهب مفتوحة. وإذا كنت كثيرا ما أختلف مع أطروحات أستاذنا الكبير وأفكاره الفلسفية، لكن هذا الاختلاف يعد جزءا من طبيعة الفكر الفلسفى ذاته. كما أن أى اختلاف مع آراء الدكتور مراد وأفكاره، لا يعنى إطلاقا أن الأفكار التى أعتنقها، أو يعتنقها غيرى تمثل الحقيقة المطلقة. فقد تعلمنا من مفكرنا الكبير أنه لا يصح أبدا أن يدعى أى منا أنه يمتلك وحده الحقيقة المطلقة.