فى المرحلة الإعدادية أتذكر مدرس اللغة العربية الذى أراد أن يعاقبنا على طول شعرنا، فأخرج المقص من جيب جاكتة البدلة الكاملة التى يرتديها وأوقفنا، نحن طويلى الشَعر، صفًا واحدًا، وقص لنا جزءًا عميقًا عقابًا على النسيان. فى عام 1972، كانت للشَعر قداسة غير مسموح لأحد المساس بها! كنا فى العقد الأخير لعصر «الهيبز»، وفى العُطلات الصيفية نترك شعورنا كما هى لتناطح شعور الفتيات، واللاتى كن أيضا يأخذن الطريق العكسى فى قص شعورهن ليناطحن شعور الشباب. كان الشَعر أحد الرموز الحساسة الذى تُعلّق عليه الأحلام والخيالات، ويتأثر بتحولات الثقافة. أحد الأشياء التى تحدد هوية الفرد، والنيل منه نيل من هذه الهوية، أو طمس لها، وحتى ولو كانت شكلية. فعند دخول السجن يتم التخلص منه كعقاب إضافى. فتغيير الهوية السابقة للسجين هو أولى خطوات التطهر من الذنب، ولحرمانه من أحد مظاهر حياته العادية، متمثلا فى شعره. وأيضًا عند دخول الجيش، لإكساب المجند هوية جديدة تتم بتجريده من أحد رموز هويته السابقة. الشعر إحدى العلامات التى يمكنها أن تساعد مؤقتًا فى تحديد أو تغيير الهوية. عمليات التخفى فى الأفلام المصرية والتنقل بين الجنسين، إحدى الحيل الكوميدية المضمونة التى تولد المفارقة، وبالتالى الضحك. لكن حتى الآن كان قص الشعر نوعًا من العقاب الذى يأتى من الخارج. لكنه أصبح عقابًا إراديًّا، كما عند الرهبان البوذيين الذين يقومون بحلق رؤوسهم كرمز للنقاء ولخلق الشخصية الجديدة. هنا يتخفى العقاب تحت ثقل الإحساس الدينى وتعاليمه. قص الشعر خطوة باتجاه القداسة. نفس الشىء فى الحج، وإن اختلفت النوايا أو التعاليم التى تقف وراءها. فالتخفف والزهد وتغيير الهوية شىء أساسى للتطهر والنقاء. ظل للفكرة جانبها الطقسى، لكن عبر إيمان مختلف، ألا وهو «التمرد»، فأصبح لهذا القصاص من هذا الجزء الغالى من الجسم، والذى يحمل نوعًا من التضحية وبذل النفس وتغيير الهوية الشكلية، أو التشويش عليها، مفتاحًا للدخول فى الجماعة الصغيرة المتمردة. ربما عند الكثيرين الآن تتضمن حلاقة الشعر على الزيرو حسًا متمردًا، وربما متعاليًّا، لأن به تضحية بجزء اجتماعى وشخصى غالٍ. أى تمردًا له حس دينى، لأن له طقوسًا ومظاهر، وسمتًا شخصيًّا. التمرد يحيى دائما العلاقة بالدين عبر البحث فى أشياء دقيقة وظاهرة ربما لا يلتفت إليها الدين بنفس القوة والمقدار التى يلتفت إليها التمرد. يلعب التمرد بهذه الأشياء كيفما يشاء، ويمسخرها، ويمسخها فى النهاية. فى هذه الحالة، الفرد هو الذى يعاقب نفسه بنفسه، بديلا عن السلطة. أو ينوب عنها، أو يستخدم أحد أشكال عقابها. أو يسخر منها، مستخدمًا نفس أسلوبها. يحكايها، لكن من أجل هدف مختلف. عقاب إرادى كى ينحت الوجه مكانًا جديدًا متفردًا فى السياق الاجتماعى. سافر أحد زملاء الجامعة، الذين يرسبون طويلا، مبكرًا إلى فرنسا، بينما نحن نجلس هنا كالحمير فى انتظار البعث، وعاد برأس حليق. كنت أقدره وأخشاه وأحسبه على الدوام شخصًا من كوكب آخر. لكن هذا النوع من التمرد الشكلى أخذ يتميع ويصبح قناعًا لأشياء أخرى، أهمها إخفاء العمر، أو الصلع ذاته. فمع ازدياد الصلع اتسعت رقعة المتمردين والرهبان البوذيين الذين يستخدمون حلاقة الشعر على الزيرو وسيلة لإخفاء العمر. إخفاء تلك الطبقة البيضاء من الشعر، أو للتمويه على الصلع الجزئى. على الرغم من أن الشعر أحد المظاهر التى تؤكد وتحدد الهوية الجنسية، فإن إزالته أيضا تميعها، تخلط أعمارًا وأجيالا. فى الستينيات كان هناك ممثل أمريكى، من أصل روسى، له رأس حليق هو يول براينر، لعب دورًا مهمًا فى فيلم «الإخوة كرامازوف». كان رأسه الحليق مرادفًا لنبل فى الشخصية. فى نفس التوقيت كان هناك أيضا يول براينر السينما المصرية، ذلك الكومبارس الشهير إسماعيل. كان أيضا حليق الرأس تمامًا، واختص بتجسيد شخصية الشرير، أو أحد أفراد العصابة، الذى له سمات خارجية. استخدمت فكرة الصلع لتُظهر الشر الكامن فى الشخصية أو الذى له سمات خارجية. حلاقة المرأة شعرها، بدرجاته، ربما يقربها أحيانا من فكرة الرجولة، أو السلطة، أو التمرد بشكل عام. لكن التخلص منه تمامًا هو عقاب سيوحد شكليًّا بين الذكر والأنثى داخل هذا الشكل المحايد. دائما العقاب يوحد بين الأجناس ويطمس الهوية. هناك واقعة شهيرة زمن عمر بن الخطاب. كان هناك رجل اسمه نصر بن حجاج فُتنت به النساء. فى أثناء مرور الخليفة عمر ليلا سمعها تقول شعرًا فيه وتتمنى وصاله. أتوا به لعمر. طلب منهم أن يقصوا له شعره الجميل والناعم، فازداد جمال وجهه فى نظر عمر، وأصبح كجمال النساء، فنفاه إلى بغداد. التخلص من الشعر كان وسيلة عمر لطمس جاذبية الرجل، لكنها لم تنجح. هناك جاذبية تنشأ من اقتراب النوع من النوع الآخر كما فى كل الموضات وحالات التمرد. هناك صديقة نشرت على ال«فيسبوك» صورتها معالجة بالفوتوشوب، وهى حليقة الشعر تمامًا. أحسست بالفزع من الصورة. أحسست بانتقام عميق من النفس تحاول أن تبثه هذه الصديقة، وهى تمسخ صورتها. هذا الإيذاء الجسدى المتعمد كمن يؤذى نفسه بإسالة الدماء. لم أحسبها صورة افتراضية، غرضها التجرد من أحد رموز الأنوثة أو النوع. ولكنه إيذاء للشكل تجاوز رغبة الاقتراب من الرجل، أو الآخر، أو استرداد السلطة كما عند نفرتيتى الملكة المصرية حليقة الرأس. ربما لأن الرجل، فى هذه الحالة، وليس المرأة، كان هو المقصود بهذا التجاوز والإيذاء، المقصود بهذه الإهانة، وهو هدف قصير المدى لا يمنح لهذه المحاولة قداستها.