«كل سنة وإنت طيب يا خويا وربنا ما يحرمنا من زيارتك أبدا.. بس إلا هو يعنى إيه عيد؟» هكذا سألتنى السيدة الفاضلة أم ترتر وأنا أزورها لتهنئتها وتهنئة أبنائها السبعة بعيد الأضحى المبارك. كنت قد تمنيت لها عيدا سعيدا عليها وعلى أبنائها وأن يعيده الله عليهم جميعا بالخير واليمن والبركات، ولكنها صدمتنى بسؤالها الذى طرحته بنبرة حزن أوجعتنى. قلت لها إننى أعلم الظروف الصعبة التى تمر بها، محاولا التخفيف عنها بالقول بل إن الله يعلم أن الأمور صعبة على الجميع، ولكن بالتأكيد تلك الحالة لن تستمر للأبد وأن تلك الحالة لا بد لها من نهاية، فما كان منها إلا أن رمقتنى بنظرة أعلم مغزاها جيدا، نظرة تكاد تنطق «يا كذّاب»، فما كان منى إلا أن ابتسمت محرجا، فهى على الرغم من بساطة تعليمها فإنها تمتلك قدرة مصرية خالصة على معرفة الحقيقة من الزيف من المجاملة، صحيح أنها تصبر «على الكداب لحد باب الدار»، ولكنها بعد ذلك لا تعرف الصمت إن انفجر غيظها، ولا يهمها وقتها إن كان الكاذب غفيرا أو أميرا. قالت أم ترتر: «ومن نبّى النبى نبى يا خويا أنا مش عبيطة وعارفة من الأول إن ماحدش بيحس بالغلابة إلا الغلبان اللى زيهم، صحيح فيه إنت واللى زيك بتتكلموا عننا كتير وممكن تيجوا وتقعدوا معانا شوية وتشوفوا حالنا ونصعب عليكم لكن فى آخر اليوم بتروحوا فين؟..»، وقبل أن أجيب استمرت فى حديثها الموجع: «بتركبوا عربياتكم ولا توقفوا تاكسى وترجعوا لعيالكم ومراتاتكم وللشقق المحترمة اللى عايشين فيها.. آه بتجيبوا سيرتنا ليل نهار فى الجرانين والتليفزيونات، لكن فى الآخر إنتو مش مننا، وحتى اللى كان مننا فيكم أول ما بيخرج من هنا بيبقى كل همه ينسى الأيام السودا اللى عاشها وسطينا.. والله أنا بحبكم كلكم وعارفة إن نيتكم صافية وقلبكم طيب بس وبعدين؟ أنا عارفة إن إنتو مش السبب وإن الثورة بتاعتكم مش السبب بس برضه وبعدين؟».. قلت لأم ترتر إن الثورة ما قامت من الأساس إلا من أجلها، ومن أجل كل فقراء هذا الوطن وأن أول شعاراتها كان «العيش» قبل «الحرية» إيمانا بحقها وحق أبنائها وأمثالهم فى الحياة بكرامة، والكرامة لا تعنى إلا مسكنا إنسانيا وتعليما حقيقيا وخدمة صحية ملائمة لا تفرق بين غنى وفقير.. رمقتنى ثانية بالنظرة نفسها التى فهمت منها أننى بدأت أردد الشعارات الفارغة نفسها التى لا تسمن ولا تغنى من جوعها وجوع أبنائها، وحينها توقفت عن الكلام على الرغم من إيمانى الحقيقى به، ولكن نظرتها كانت أقوى من كل الكلمات. لم تتركنى طويلا فريسة للصمت، بل أبت إلا أن تزيد حزنى وحيرتى وإحراجى أمام نفسى وقالت: «عملتوا ثورة وإنتو عينكو علينا، وقولتوا إنكم عملتوها عشانا، لكن إيه اللى حصل فى الآخر؟ لا طولنا بلح الشام وعنب اليمن.. مش هاكلمك عن أكل بيغلى كل يوم، مش هاكلمك عن لبس العيد اللى مش فاكرة آخر مرة اشتريته إمتى للعيال، مش هاقولك معاش ولا نفقة ولا شغل ولا تعليم ولا بلطجية ولا حرامية تحت وفوق، بس هقولك إن المجارى لساها ضاربة فى الحارة يا خويا لا حد بيسلكها ولا حتى بيقولنا هتتسلك إمتى».. «تعرف يا خويا اللحمة اللى إنت جايبها معاك دى الناس فى الحارة هنا مش بيشوفوها غير فى العيد الكبير وعيد الانتخابات.. أنا عارفة إن إنت بتسمع الكلام ده منى ومن غيرى طول عمرك، بس عارفه برضه إن زى ما فيه ناس بتعيّط لما تسمعه منك ولا مننا عشان بيصعب عليها حالنا، فيه ناس تانية بقت بتزهق لما تسمع الكلام اللى زى ده ويفتكرونا بنمثل أو زى ما قولتلى قبل كده بيفتكروك إنت نفسك بتاجر بينا وبغلبنا، بس والله ولا ليك عليا يمين إنى ما بكدب عليك فى كلمة واحدة.. فيه ناس هنا فى الحارة حتى فى العيد الكبير مابتشوفش اللحمة عشان كرامتها بتنقح عليها قوى زى حالاتى ومستحيل يروحوا يقفوا طابور عشان ياخدوا كيس من اللى الناس المقتدرة بتوزّعه.. مش كل الغلابة بيمدوا إيدهم يا خويا.. وإحنا زمان لما كنا بنقف فى طابور الجمعية لما بتنزل لحمة ولا فراخ ولا بيض كنا بنقف وإحنا مش زعلانين عشان عارفين إن ده حقنا وماحدش بيجبّى علينا بيه ولا بيدهولنا صدقة ولا شحاتة، إنما دلوقتى الطابور مش هو الطابور والناس مش هى الناس والبلد مش هى البلد.. أنا مش هقف فى طابور علشان أشحت يا خويا، والله أنا بارضى بس آخد منك الكيس اللى إنت بتجيبه معاك كل عيد علشان عارفة إنك مش جايبه معاك من تِلت الصدقة لكن جايبه عشان بتعتبرنا من أهلك، ولو حد تانى غيرك كنت قولتله متشكرين ربنا ساترها الحمد لله».. لا أعرف لماذا يتلجّم لسانى فى كل مرة أجلس فيها مع أم ترتر، بل وأنسى فى لحظة كل ما تعلمته وقرأته بل وحتى عشته من تجارب فى حياتى، ولا أجدنى إلا تلميذا خائبا لا يعرف إجابة عن أى سؤال يسأله الممتحن.. ولكنها وكعادتها تتصرف، وهذه المرة وحين لمحت ما بدا علىّ من اكتئاب شديد حاولت منعه من الظهور ولكن لمعة ظهرت فى عينى فضحتنى فوجدتها تبتسم فجأة وتقول وهى تضحك: «طيب تصدق بالله الواد كلبظ أتخن واد فى عيالى ده اللى الناس فاكراه بياكل خروف على الفطار مش بيحب اللحمة أصلا يمكن عشان ماتعودش على طعمها.. طالع فقرى زى أمه.. والناس ماتعرفش إنه لو كل لقمة على الفطار تبان على وشه قبل الغدا.. هاهاهاهاه.. لحمة إيه يا خويا دى اللى تخلينا نزعل ونتضايق كده.. يا راجل بلاش هم.. والنبى إضحك كده وربك هيعدلها إن شاء الله.. كل سنة وإنت طيب يا خويا ومانجيلكش فى حاجة وحشة».. قالتها وهى تضحك ولكنى حاولت أن أقلدها ففشلت واكتفيت بابتسامة بلهاء ارتمست على وجهى، وما زلت مرسومة حتى الآن.