(1) لم تتخيل يوما أن يتم ذكر «حماتها» فى القرآن، لأنها عندما كانت تعيش فى كنفها لم يكن القرآن قد ظهر بعد. حماتها «حمالة الحطب» زوجة أبى لهب. عندما زار وفد من آل عبد المطلب بيت الرسول لطلب يد ابنتيه رقية وأم كلثوم لعتبة وعتيبة ابنى عمهما أبى لهب انقبض فردان من أهل البيت الكريم. الشقيقة الصغرى فاطمة سالت دموعها خوفا من أن تعيش وحيدة بلا أخت تحديدا رقية صديقتها الحنون. أما السيدة خديجة فلم تر فى عرض الزواج غير أن أم جميل بنت حرب ستكون «حماة» ابنتيها، كانت تعرف عنها قسوة طبعها وحدة لسانها وقوة شخصيتها على زوجها وابنيها وسواد قلبها. (2) ذاقت السيدة رقية الأمرَّين فى بيت أم جميل.. كانت ترصد حركاتها وتعد عليها لقيماتها وتحاسبها إن ردت أو صمتت.. وكلما رأت فى رقية ملمحا من عظمة ورقى وصفاء السيدة خديجة كانت تجن وتستعر نار القسوة فى قلبها. ظلت السيدة رقية تفكر كثيرا فى أن تشكو إلى أبيها أو إلى أمها مر العيش فى بيت أم جميل لكنها كانت تخاف أن يحزنهما ما تلقاه فالتزمت الصمت. إلى أن أعلن النبى رسالته على الملأ.. فبدأت الحرب على الرسول مستهدفة أضعف نقطة فى قلبه.. «ردوا عليه بناته» قالت قريش.. «طلّق ابنة محمد ونزوجك أى امرأة من قريش شئت» قالت أم جميل.. طلقها عتبة، ولم ير بعدها عائلة أشد عداوة للنبى من أبى لهب وزوجته. (3) عادت رقية إلى بيت أبيها، لكن الحال كانت قد تغيرت، فقد تبدد الأمان والهدوء والسعادة التى كانت تملأ كل أركان هذا البيت.. وتأكدت بنفسها عندما سمعت أباها يقول «مضى عهد النوم يا خديجة». وكَل سيدنا النبى أمر ابنته إلى خالقه فجاءها سيدنا عثمان بن عفان يسعى للزواج بها يظله نسب عريق وطلعة بهية ومال وفير وخلق نادر.. تقول كتب السيرة «لم يُر زوجان أجمل منهما ولا أبهى». لم تدم السعادة طويلا.. اشتدت الحرب على الإسلام واختصت سيدنا عثمان بمقاطعة أهله وعشيرته له وانقطاع سبل تجارته. كانت بنات النبى قد أسلمن جميعا، لكن عندما فكر فى أن يهاجر المسلمون إلى الحبشة اختص أول من اختص بالقرار رقية وزوجها. ودّع رقية وزوجها ليلة الرحيل قائلا «والله إنهما أول من هاجر إلى الله بعد لوط». من فوق الجمل حانت من رقية التفاتة ناحية ديار الطفولة وهى تودعها فسالت دموعها، انتبهت فوجدت عثمان ينظر ناحيتها نظرة محبة اختلطت بالعتاب، خجلت من دموعها وقالت «الله معنا». (4) وصلت أخبار مطمئنة عن تحسن أحوال المسلمين فقرر المهاجرون أن يعودوا، وعلى مشارف مكة أدركوا أن الأخبار كاذبة وهم يسمعون صرخات المسلمين من تعذيب أهل قريش، تجرأت رقية ودخلت مكة محتمية بالحرم واتجهت إلى بيتها، كانت رقية فى أشد الشوق إلى أمها.. استقبلتها فاطمة بالأحضان.. سألتها: أين أمى؟ ردت عليها دموع فاطمة. ستهاجرون إلى يثرب.. قال سيدنا النبى. وهناك بدأت الحياة تضحك لرقية بقدوم ابنها عبد الله.. كان عبد الله فاكهة جده المحببة.. وعوضها عن آلام الهجرات وفقدان الأم.. لكنها استيقظت يوما على صوت صراخ عبد الله يشق سكون المنزل.. رأته يخر صريعا بعد أن نقره ديك فى عينيه وفى وجهه فصفاه من الدم فمات. كبرت أحزان رقية صاحبة الهجرتين.. وسقطت طريحة فراش المرض، وعندما حان موعد غزوة بدر اختار عثمان أن يمكث إلى جوار رقية.. وشجعه الرسول على قراره. (5) لم تدم سعادة سيدنا النبى بالانتصار فى بدر طويلا. كان الحزن يخيم على بيت رقية.. التقته فاطمة على الباب فطلب منها أن تصحبه إلى قبرها. أمام قبرها وقف صامتا.. أما فاطمة فقد جلست أمام القبر تبكى.. فجلس الرسول إلى جوارها على ركبتيه واحتضنها ولم يدر كم من الوقت مر عليهما وهى تبكى وهو يمسح دموعها بطرف ثوبه. مصادر: سيرة ابن هشام، «بنات النبى» للدكتورة عائشة بنت الشاطئ، «زوجات النبى وآل البيت» للشيخ الشعراوى، فى كتب السيرة رواية أن السيدة رقية تم طلاقها قبل الدخول بها وواحدة تؤكد حدوث الطلاق بعد انتقالها للعيش فى بيت أم جميل.