سبع فتيات تركيات قويات ومفعمات بالحياة والقوة، ومحجبات أيضا.. هربن من جحيم العلمانية فى تركيا، إلى جنة دولة تستوعب جنون ارتدائهن الحجاب! تلك هى ببساطة الفكرة التى حقق فيها المخرج الإيرانى محمد ريزا عباسيانى، من خلال فيلمه «بنات» المشارك فى مسابقة مهرجان «كازان» السينمائى الدولى للسينما الإسلامية بدورته السابعة فى مسابقة الأفلام التسجيلية القصيرة. كل فتاة من السبع تحكى قصتها، وتبدع فى شرح تفاصيل قرار اتخاذها ارتداء الحجاب فى دولة تدعى أنها تحافظ على حرية مواطنيها، بينما تمنعهن من ارتداء الحجاب بموجب القانون إذا رغبن فى دخول الجامعة.. ماذا يفعلن إذن إذا أردن استكمال تعليمهن وفى الوقت ذاته تمسكن بحجابهن، الذى يرين فيه رمزا للعفة ورمزا للإسلام ورمزا للحرية كما يرينها، وهذا حقهن تماما؟ هربن جميعا، وتركن تركيا كلها بعلمانيتها التى لا تناسب حريتهن فى اختيار ملبس ومظهر يليق بهن، ليستكملن تعليمهن فى البوسنة.. حيث المناخ مفتوح ورحب ويستوعب جموح حرية الفرد فى ارتداء غطاء الرأس، وحيث إنه البلد الأقرب إلى وطنهن الأم، وحيث إنه الأرخص بالنسبة إلى ظروفهن الاجتماعية، وحيث يدرسن الموسيقى والاقتصاد والبيزنس دون اضطرار لخلع الحجاب.. أى حرية تلك التى تفرض على الشخص ما يرتديه وما لا يرتديه؟! أجمل ما فى الفيلم أنه لم يعرض لفتيات منتحبات يتحسرن على حالهن وعلى الظلم الذى وقع عليهن، ولكنه عرض لنماذج مشرفة لفتيات قويات أصررن على استكمال تعليمهن دون التنازل عن ذرة من حرياتهن.. رفضن خلع الحجاب بلى الذراع، وفكرن فى سبل تحقيق حلم التعليم دون خلع حجابهن. مشاهد تخطف القلب صورها مخرج الفيلم الإيرانى للفتيات وهن يسرن وحيدات فى دروب سراييفو مع خلفية لكلاب تنبح، لكن التصميم والإصرار فى وجوههن غلب خوف المشاهد نفسه عليهن.. ليس الإنسان سوى فكرة.. يصر عليها وينطلق لتحقيقها بإصرار لا يعرف الهزيمة. عقب انتهاء الفيلم تم عقد مؤتمر صحفى لمخرجه محمد ريزا عباسيانى، وفى حضور وفد كامل من القنصلية الإيرانية! وكان السؤال الذى راودنى عقب انتهاء الفيلم مباشرة موجها للمخرج: جميل أن تتناول حظر حرية ارتداء الحجاب فى جامعات دولة علمانية يدين شعبها بالإسلام، ولكن ما الحال فى حرية السفور فى دولة دينية بها مسيحيون وأجانب تجبر نساؤهن على ارتداء الحجاب؟ وكان المخرج مراوغا إلى درجة قصوى فى الإجابة عن السؤال، فقد قال وأعرف مدى الضغط الواقع عليه فى حضور وفد سفارة بلده: تريدوننى أن أقدم فيلما ضد حكومة بلدى؟! أنا صنعت فيلما عن مشكلة اخترتها بنفسى، فليصنع الآخرون أفلاما عن الحجاب فى إيران! ثم تبع كلماته بتأكيد أن فيلمه لا علاقة له بالسياسة، وأنه لا يرغب فى مناقشة أى مشكلات سياسية لها علاقة بتركيا أو إيران، وأن فيلمه ليس إلا فيلم تسجيلى عن مشكلة يرغب فى تناولها بفيلم تسجيلى، لكنه -رغم ذلك- ختم حديثه فى المؤتمر الصحفى بكلمات جعجاعة فى السياسة عقب سؤال وجه إليه عن كون الفيلم يتناول مشكلة الحرية فى تركيا ويتجاهلها فى إيران وكأنه موجه فى ظل صراع القوى بين البلدين، عندما قال: إذا قدمت فيلما عن انتهاك الحريات فى إيران أو البحرين أو سوريا ستتسابق المهرجانات لعرض الفيلم، ولكن إذا قدمت فيلما عن الحريات فى السعودية أو إسرائيل أو أمريكا سيدير لك الجميع ظهورهم، ولا علاقة للسؤال بالإجابة طبعا! وإذا لم تكن هذه سياسة.. فما السياسة إذن؟! وإذا اختلف الأتراك والإيرانيون، فلا بد أن نرى نحن برؤية ثاقبة أننا فى مصر لا نحتاج إلى التجربة التركية بكل علمانيتها المبهجة شكلا، والمفروضة على الناس بقوة القانون، ولا التجربة الإيرانية الدينية المفروضة على الناس بقوة الاستبداد.. نحن نحتاج إلى تجربة مصرية خالصة.. تحب الدين بكل تفاصيله ورصانته وقيمه، وتحب الحياة بكل انطلاقها وجمالها وخفتها، وتصنع ذلك المزج الفريد بينهما.. دين يصنع الحياة باحترامه للحرية، وحياة لا تتحطم باسم الدين أو باسم إعلائه على الحرية.. فالدين والحرية لا ينفصلان ولا تنازع بينهما، وإنما تتنازع العقول المغلقة على اتساعها باسم الدين والمنفتحة على انغلاقها باسم الحرية، لكن سينما مصر غائبة عن كل هذا فى زخم «بوم بوم تك» و«شارع الهرم» والحنين ل«طباخ الريس»! ومن جدل السياسة فيما يتعلق بالعلمانية والحجاب والسفور إلى جدل أعمق فى السياسة.. وكيف تؤثر صراعات الكبار فى السياسة على أحلام ومستقبل أطفالنا.. فيلم الرسوم المتحركة «صندوق الذكريات» للمخرجة السورية سلافة حجازى، الذى يشارك فى المسابقة الرسمية لمهرجان كازان لأفلام «الأنيميشن»، الذى عرض فى اليوم السابق لختام المهرجان، ضم فى 13 دقيقة 37 قصة متحركة تعتمد على تقنية الرسوم المتحركة ثنائية الأبعاد وتقنية «الاستوب موشن»، عن أطفال من اللاجئين فى سوريا قدموا من العراق وأفغانستان، جمعتهم ذاكرة حرب قاسية وجمعهم الحنين إلى الوطن والأهل والأصدقاء. كان هدف الفيلم هو أن يحكى كل طفل بالرسوم المتحركة حدثا قاسيا مر عليه بسبب حياته وحياة أهله القاسية، التى خلفها اللجوء السياسى على روحه، ليتصالح هذا الطفل مع ماضيه بطريقة إبداعية، والمفاجأة أن كل القصص التى اختار الأطفال سردها والتى وردت فى الفيلم كانت بعيدة عن العنف والدم الذى شاهدوه بأم أعينهم ومهاترات وجدل السياسة الثقيل، فقد اختاروا أن يحكوا ذكريات مدهشة ومبهجة تحمل حنينا وشوقا إلى الأهل والأصدقاء، الذين قتلوا أمامهم فى وطنهم الأم.. هكذا يعرف الأطفال السياسة، وهكذا تقدم مخرجة سورية رؤيتها لأطفال تعايشوا مع الدم، بل إنه يسيل منهم أحيانا، لكنهم ينظرون إلى المستقبل.. وهكذا يكون الفن دائما يدا حانية تطبطب على جراحنا، وتعدنا بمستقبل أفضل وإن كان الماضى والحاضر لا يبشران بذلك.. لا يدا قاسية خشنة تتنازع على السيطرة فى السياسة باسم الفن.