الثورات براكين تتفجر فى مجتمعات وصلت إلى نقاط حرجة فى تاريخها. فى علم الرياضيات يتغير سلوك المنحنيات عند النقاط الحرجة بطريقة يصعب توقُّعها. كذلك البراكين تثور وتُخرِج لنا من باطن الأرض مزيجًا من المعادن الثمينة المصهورة تحتوى على شوائب لا يمكن فصلها عن ذلك المزيج إلا بعمليات كيميائية معقدة يستحيل إنجازها بلا خطة لها خطوات دقيقة متراتبة. تأملوا معى ما أخرجته لنا ثورة يناير من درر نفيسة شابّة من الجنسين فى الغناء والشعر والموسيقى والفكر والكتابة النثرية فى جميع مجالاتها. إنه كنز نادر بلا شك، ولكنه يمتزج مع الأسف بشوائب اجتماعية تفوقه حجمًا، تتراكم علينا كل يوم بما يأنفه العقل الحر من أفكار تدعو إلى نشر الخرافة وتكفير المخالفين فى الرأى والعقيدة، وافتراض أن الحياة لن تستقيم إلا إذا صار الناس نسخًا متطابقة ينظر الواحد منهم إلى الآخر فيشعر كأنه يرى نفسه فى مرآة. فى أعقاب الثورات البركانية التى تقوم بها المجتمعات لتصحيح مسيرتها تزداد الحاجة إلى صناعة ثورات موازية على الأفكار التى سادت قبل اندلاع تلك البراكين. لا يحدث انتصار حقيقى لأى ثورة إلا بعد تحطيمها أصنام المجتمع وتابوهاته القديمة التى ترسخت فى سنوات الانحطاط والقهر. دون هذا تُجهض الثورة وتبدأ مرحلة قد تكون أسوأ مما قامت من أجل تغييره. معيار قياس السوء هنا ليس معيارًا ماديا بالضرورة، فقد تتمخض الثورات عن مراحل جديدة تمر بها المجتمعات تتسم بتوزيع أكثر عدلًا لمصادر الثروة المادية، ولكنها أشد فقرًا فى إنتاجها للحرية والقيم ومصادر الثروة الروحية والسعادة. تأملوا معى التجربة الشيوعية فى جمهوريات الاتحاد السوفييتى القديم بعد سقوط حكم القياصرة وتفكروا أيضًا فى تجربة إيران الإسلامية بعد سقوط إمبراطورية الشاه بهلوى. كلها مجتمعات استبدلت أصنامًا جديدة بالأصنام التى حطمتها ثوراتها، ومنحت لها حصانة بوليسية كانت تعلم استحالة بقائها من دونها. التفكير الحر مفتاح التطور. خضوع التابوهات التى يشب الناس على الرعب من مجرد الاقتراب منها للنقد العلمى هو الوسيلة الوحيدة لتحديد القيمة الحقيقية لها، لأن صمود الأفكار أمام النقد الحر يمنحها حصانة موضوعية تستحقها، كما أن انهيارها يمنحها موتًا لا ترتجى منفعة من تأجيله. العلم يرفض التابوهات لأنه يتعامل مع حقائق ومسلمات لا تقبل الشك تسقط النظريات حين تتناقض معها. مثال: ذرتا الأكسجين تتحدان لتكوّنان جزيئًا غازيا لا بديل له لتنفس كثير من الكائنات الحية وقيامها بحرق الغذاء والحصول على الطاقة التى تَلْزَمها فى عملية ينتج عنها ثانى أكسيد الكربون الذى تمتصه النباتات والطحالب بدورها لتقوم بعملية تمثيل ضوئى ينتج عنها الأكسجين لتتنفسه تلك الكائنات مرة أخرى. هذا التابوه سقط بعد أن اكتشف العلم جزيئًا غير ثابت يسمى الأوزون يتكون من ثلاث ذرات من الأكسجين يتفوق فى حصولنا على الطاقة على الجزىء الثنائى المعروف، ويتميز عنه بمنح الخلايا القدرة على الشفاء وسرعة التئام الجروح بل ويمكنه الاتحاد مع الجزيئات المسرطنة النشطة والتخلص منها بتحويلها إلى مركبات خاملة غير ضارة. تأكدت هذه الحقيقة الطبية عند اكتشاف البعثات العلمية فى أمريكا اللاتينية لقبائل أمازونية معمرة، صحة أفرادها أفضل منا ألف مرة لأنهم يعيشون بجوار الشلالات التى تمثل المصادر الطبيعية لإنتاج الأوزون. العلم أسقط التابوه القديم الذى كان يقول إنه لا بديل للإنسان عن جزىء الأكسجين التقليدى الثنائى الذرات ليأتى الأوزون ويثبت أنه يمكن لنا الحياة بشكل أفضل باستخدام الجزىء الجديد وإن كان يعد تنويعة على القديم. هواة صناعة التابوهات يمكنهم أن يصنعوا من صدفة التشابه بين كلمتى الأوزون والأمازون نواة لمعجزة لفظية تؤكد لهم استحقاق الصنم الجديد للحماية رغم أن العلم الحديث قد يؤدى بنا فى المستقبل إلى الاستغناء التام عن عملية التنفس بأكملها. لا عجب فى هذا ولا تخريف لأن التنفس ليس ضرورة فى حد ذاته، بل هو جزء فى عملية أكبر منه تسعى لإمداد الجسد الحى بالطاقة. الهدف هو الطاقة لا التنفس، ولو حصل عليها الإنسان فى قادم الأيام بطريقة نجهلها الآن فسيمكنه العيش بلا حاجة إلى أكسجين. هناك زوائد عظمية فى نهاية العمود الفقرى للبشر تؤكد وجود ذيل قديم مندثر. خطورة التابوهات وتأثيرها السيئ تكمن فى أنها تمنح الأشياء نماذج مثالية كاذبة لا تستحقها يتم تحصينها من النقد بدعوى أنه لا يمكن تجاوزها أو استبدالها. الذين يرسخ إيمانهم لرؤية لحاء شجرة مكتوب عليها اسم الله من المنطقى أن تتصاعد شكوكهم ويهتز إيمانهم إن شاهدوا سمكة كُتب على جلدها اسم بوذا. الغرب الذى يسبقنا كثيرًا فى التفكير العلمى ليس منزهًا عن الوقوع فى تلك الأخطاء. على موقع «أمريكا أون لاين» قرأت موضوعًا منذ أيام عن معجزات تجلِّى المسيح والسيدة العذراء على لحاء الأشجار والزلط وثمرات البطاطس. كل حصانة ممنوحة لا تكتسبها الأفكار والمعتقدات بدفاعها المنفرد عن نفسها تمنح لها البقاء والاستمرار لمدة أطول لا تستحقها. دفاع الأفكار عن نفسها بنفسها هو فقط الذى يمنحها بقاء تستحقه. لا نفع فى مومياوات شائخة تحيا بالكاد فى بيئة محمية معقمة تم تفريغها من خصومها الطبيعية التى قد لا تصمد أمامها. انتصار التابوهات المؤقت يشبه انتصار الفرق الضعيفة التى يدعمها تحيز الحكام وتعصب الجماهير التى تُرهب الخصوم بزئيرها الجبار، ليفوز فريقها المتهالك بلا موهبة يمتلكها أو متعة مبهرة يقدمها. المجتمعات المريضة تجاهد لتمنح لبعض الأفكار الضعيفة حصانة لا تستحقها رغم أن فى موتها حياة لها.