فى لقائه الأخير مع ممثلى الأحزاب السياسية، نُسِب إلى الرئيس عبد الفتاح السيسى قوله إن الإعلام تجربة تنضج بالتدريج، وإنه لا يرغب فى أى إجراءات استثنائية. فأما المقطع الأخير فهو أمرٌ محمود، لكنه يبقى غير كافٍ فى ظل وجود أخطاء مهنية ومزايدات معروفة، وأما المقطع الأول فإنه محل نقاش ومسألة فيها نظر. نعم، الإعلام يمكن أن ينضج بالتدريج، ولكنه يحتاج إلى إجراءات حازمة واختيارات سليمة لإدارة ملفاته، ورؤية متمرّسة من شخصيات معروفة بإتقان العمل ونظافة اليد وكفاءة التجربة. وبالتالى، لا يمكن أن تنتظر النضج من تجربة تعانى القصور وسوء الإدارة وفساد وإهمال بعض القائمين عليها. لنعد إلى مثال «ماسبيرو»، فهو الأقرب إلى الأذهان، وربما كان بيت القصيد أو الداء فى الحالة الإعلامية.. لا فرق. ها هى واقعة قطع البث عن مبنى «ماسبيرو» تتكرَّر للمرة الثانية خلال شهر، وذلك فى 26 مايو، فى حين قال المهندس إبراهيم سلام، رئيس الخدمات الفنية ب«ماسبيرو»، فى سياق تبريرها، إن انقطاع البث عن «ماسبيرو» سببه مناورة خاطئة، أجراها مهندسو الكهرباء فى أبراج «نايل سيتى»، على خطَى كهرباء يُغذّيان المبنى، مما تسبَّب فى هزة كهربائية عنيفة، أثَّرت على الخط الثالث الذى يُغذّى مبنى التليفزيون. كان مبنى الإذاعة والتليفزيون قد شهد مساء 9 مايو، انقطاع التيار الكهربائى، وتوقّف البث عن قنوات «النيل» و«الأولى» و«المصرية»، وساد السواد شاشاتها، وصمتت الإذاعات المملوكة للدولة لما يزيد على نصف ساعة، وذلك لأول مرة فى تاريخ مبنى «ماسبيرو»، حيث لم يحصل ذلك حتى فى أوقات الحروب لعقود طويلة مضت. الواقعة استدعت تدخلا حكوميا سريعا لتدارك الأزمة، حيث أمر المهندس إبراهيم محلب، رئيس مجلس الوزراء، عصام الأمير، رئيس اتحاد الإذاعة والتليفزيون، بإحالة المتسبّبين فى انقطاع التيار الكهربائى عن القنوات التليفزيونية ووقف البث، إلى النيابة العامة. يومها أضاف محلب، فى مداخلة لنشرة أخبار التاسعة بالتليفزيون المصرى: «أعتذر للشعب عن انقطاع البث، والواقعة لن تمرّ مرور الكرام، ولن يسمح بتسويد شاشات التليفزيون الرسمى ولو للحظات، نظرًا لكونه أمنا قوميا لا يمكن بأى حال من الأحوال التهاون فيه»، داعيا العاملين فى «ماسبيرو» إلى مزيد من اليقظة فى عملهم. وفى كلمة تليفزيونية بعنوان «حديث الرئيس»، أعرب السيسى عن استيائه بسبب ما تعرَّض له مبنى «ماسبيرو» من انقطاع للكهرباء ووقف للبث، وقال إن «الإذاعة والتليفزيون أمن قومى لمصر، ولن نسمح أو نتهاوَن فى توقف البث لدقيقة واحدة». تبرير عصام الأمير، رئيس الإذاعة والتليفزيون، لما جرى لم يخرج عن تحميل المسؤولية لتذبذب التيار الكهربائى، قائلاً إنه عاد بشكل قوى ومفاجئ، مما أدى إلى حرق «البوردة الرئيسية» فى مولدات الطاقة الكهربائية، وتسبّب فى صعوبة النقل والتبادل ما بين المصدر الرئيسى والمولدات. جدير بالذكر أن حادثة أخرى كانت قد وقعت فى نهاية أبريل 2015، عندما انقطع التيار الكهربائى عن مبنى ملحق «ماسبيرو» فى تمام الساعة الثالثة صباحا، غير أن هذا الانقطاع لم يُسفر -وقتذاك- عن توقف البث بسبب عدم وجود استوديوهات بث مباشر فى هذا المبنى. غير أننا لم نسمع أو نقرأ تقريرا وافيا ونهائيا عن الواقعة الأولى، ولا نظن أننا سنسمع شيئا واضحا وحاسما عن الواقعة الثانية. التسويد مستمر.. ليس فقط على الشاشات. فى لقائه مع شباب الصحفيين والعاملين فى الإعلام، فى مطلع ديسمبر 2014، تحدَّث الرئيس عبد الفتاح السيسى عن «ماسبيرو»، مشيرا إلى أنه كلَّف صفاء حجازى، رئيس قطاع الأخبار فى التليفزيون، وعصام الأمير، رئيس اتحاد الإذاعة والتليفزيون، بوضع تصوّر للتعامل مع هذا الملف خلال 3 أشهر، وقال: أعلم أن «ماسبيرو» تدهور تماما، لكنه قبل ذلك كان يقوم بدور مقبول، ولديه إمكانيات كبيرة، وبإمكانه العمل ب1000 أو 2000 شخص، فضلا عن رواتبه التى زادت لتصل إلى 220 مليون جنيه، والتى كانت جزءًا من الزيادة العامة فى رواتب الدولة التى وصلت إلى 207 مليارات جنيه، بعد أن كانت 70 مليار جنيه قبل 25 يناير. مرَّت الشهور الثلاثة، وتقرير صفاء غائب، على الأقل عن أنظار أهل الإعلام والمهتمين بإصلاحه. إن مأساة «ماسبيرو» تستحقّ الالتفات إليها وبسرعة، فهى تستنزف من ميزانية الدولة المليارات، والأخطاء تتكرَّر، وبالتالى فإنها ليست فى طريقها بأى حال إلى النضج! مقترحات الخبراء والمختصين لإصلاح «ماسبيرو» واضحة ومحددة، وهى تتركز عادة فى: الإسراع فى تشكيل الهيئة القومية للإذاعة والتليفزيون التى نصّ عليها الدستور فى المادة «212»، وتحويل بعض القطاعات الخاسرة إلى شركات مستقلة عن المبنى، تتحمَّل المكسب والخسارة، مثل شركة «صوت القاهرة» و«مدينة الإنتاج» و«قطاع الإنتاج» و«نايل سات» وشركة «CNE للفضائيات»، وطرح أسهم باسم العاملين إذا رغبوا، ويتم طرح باقى الأسهم فى البورصة. ولا يخفى على أحد أن روشتة الحل يجب أن تتضمَّن هيكلة المبنى عن طريق تحديد الوظائف وتصنيفها وترتيبها، وفتح باب التقاعد المبكر، واختصار هياكل الإنتاج المتضخمة، وضبط سياسة الأجور والحوافز وفقا للعمل الفعلى، وتدريب العاملين، وتجديد الأفكار والدماء فى البرامج، وأن يكون التنافس بين العاملين على أساس الكفاءة وليس الأقدمية، وأن يتم تحويل الاتحاد إلى مؤسسة خدمية عامة، بدلا من كونه مؤسسة اقتصادية، وعرض بعض موجات «FM» للإيجار، مع وضع ضوابط عمل تمنع الازدواجية والجمع بين عملين، فإما العمل فى التليفزيون المملوك للدولة أو فى الفضائيات. يُضاف إلى ذلك حلول تتعلَّق بتطوير قواعد الإعلانات ووضع سياسة تتمتَّع بالمرونة فى جذبها، وتفعيل دور شركات الإنتاج التابعة ل«ماسبيرو»، وصيانة مراكز الإرسال، ووضع سياسة إعلامية متكاملة تتناسب مع مصر فى مرحلة التحول. هذا غيضٌ من فيض، إن شئنا الإصلاح فعلاً.