لم يكن صلاح جاهين يحلم وحده، ولكنه آثر أن يشرك الشعراء الشباب فى أحلامه، فراح يقدمهم تباعا فى منبر مهم آنذاك، وهو مجلة «صباح الخير»، فقدم الشعراء سيد حجاب وفؤاد قاعود وفريدة إلهامى ورزق هيبة وفؤاد بدوى ومحمود عفيفى وغيرهم، وكان من بين هؤلاء الشاعر عبد الرحمن الأبنودى، وقد نشر له قصيدة «الطريق والأصحاب» فى 16 نوفمبر 1961، وكتب لها مقدمة جميلة، أنشرها كاملة هنا: (شاعر عامية يعجبنى: من بين مئات الرسائل.. أترقب رسائله.. تصلنى أحيانا على ورق أبيض، مقطع سلائخ طويلة كأعمدة الصحف، مكتوبة بإتقان شديد على الآلة الكاتبة.. وأحيانا بالحبر على ورق مسطر، مطبوع على رأسه اسم تاجر خضار وفواكه وقومسيونجى، بمدينة قنا.. وأحيان على «فولسكاب» كبيرة ذات هوامش واسعة. على أنه مهما اختلفت أشكال رسائله، فهى لا تحمل إلا شعرا، ونادرا ما يوجه لى كلاما فى أى من هذه الرسائل.. لذلك لا أكاد أعرف عنه شيئا كثيرا.. حتى عمره لا أعرفه.. ولكنى أرجح أنه ما زال فى عشرينياته الأولى. كل الذى وصلنى أنه يعمل موظفا كتابيا فى محكمة قنا الابتدائية. يكفى... سنتخيل الباقى.. فحياة شاعر رقيق حساس، يكسب دخله المحدود من دوامة محكمة إقليمية متربة، فى مدينة قائظة ملتهبة.. شىء يمكن تخيله بسهولة أن نتخيله. وعبد الرحمن الأبنودى يغلب على أشعاره طابع الفجيعة.. وربما كان هذا هو الذى جعلنى أخمن أنه ما زال فى عشرينياته الأولى.. تلك السن التى نقف فيها أمام الحياة ببشاعتها.. مصعوقين عاجزين عن تبريرها.. فلا نملك إلا أن نتخبط ونرتعش وننتفض كالطائر الذبيح. ولكنى واثق أن شاعرنا.. لن يلبث أن يرى من خلال طبقات الظلام المتكاثفة، بصيصا من النور.. برغمه على أن يحب شيئا ما. وعندما يحب هذا الشىء.. سيكون أقدر على الغناء وعلى الابتسام.. وعلى البكاء أيضا. أما عن شعر عبد الرحمن الأبنودى فهو على درجة كبيرة من التقدم.. فصوره يختارها من الحياة اليومية.. ولكنه يستطيع أن يشحنها بالعاطفة.. فنكتشف -بفرحة- كم هى موحية وعميقة هذه الصور. إن اكتشاف الشعر فى زوايا حياتنا التى أهملها الزمن.. وإثراء عاميتنا بالتعبير الأدبى الخصب.. لهو عمل وطنى قد يكون فى أهمية اكتشاف البترول فى قفارنا.. إن لم يكن أهم). هكذا كان تقديم الشاعر الكبير، للشاعر الشاب، وظل الشاعر الشاب دائما محافظا على مودة وحميمية هذا التقديم، ولا يخلو حوار مع الأبنودى، من الحديث عن عظمة وذكاء ورقة وجدعنة صلاح جاهين، أيا كان الحوار، لصحيفة، أو مع صديق، وكذلك تقدير الشاعر فؤاد حداد له، وإخلاص الأبنودى لعمه فؤاد حداد، وترديده لأشعاره، والكتابة عنه دوما، والحديث عن هذين الشاعرين فى نبل لا تعرفه سوى الأرواح الصافية والنقية. كان الأبنودى يكتب الشعر كثيرا، وإذا لم يجد ورقا، كان يكتب على ترابيزة المقهى، هو وأمل دنقل، فالشعر كان يطارده أينما كان، وأينما ذهب، وهناك من كتب عنه قبل أن يصدر ديوانه الأول، وهو الكاتب والقاص الراحل فاروق منيب، وذلك كان فى جريدة «المساء»، واعتبره من أهم الشعراء القادمين، وأفرد له صفحة كاملة فى الصحيفة، وهذه كانت سابقة لم تعرفها الصحف، أن يكتب ناقد ومبدع مرموق، هذه المساحة كلها، عن شاعر لم يصدر ديوانا بعد، وربما ذلك كان يثير قدرا من الغيرة عند آخرين، وكان الأبنودى يواجه هذه الغيرة بالمزاح والمرح والدعابات التى تحرج خصومه، ولا أنسى تعليقه على الإشاعات التى كان يطلقها خصومه فى الفترة الأخيرة، ويطلقون إشاعة عن موت كاذب له، فكان يقول لى، إن جماعة بوكو حرام هم المسؤولون عن هذه الإشاعة. وجاء بعد صلاح جاهين، وفاروق منيب، مجايله ورفيقه وحبيبه الراحل سيد خميس، الذى كان يبذل كل مجهوداته من أجل رفعة الأدب والثقافة، وكان مفتونا بشعر عبد الرحمن، فأنشأ دار ابن عروس، ونشر فيها ديوانه الأول «الأرض والعيال»، وكتب دراسة نقدية، تعتبر من أهم ما كتب عن الأبنودى، وألحقها بالديوان، وظل خميس متابعا للأبنودى، وراعيا نقديا له، ومنتصرا لشعره ولتجربته بشكل مطلق، وكتب عنه مرات ومرات، وكان عبد الرحمن يعتز بخميس إلى حد بعيد، ويعتبره أحد أساتذة نقد شعر العامية فى مصر. وإذا كانت علاقة الأبنودى بالشعراء مثل حداد وجاهين، والنقاد مثل سيد خميس ويحيى حقى الذى اعتبره «خلاصة الشعراء»، أو أنه مثل «فراكة العجين»، والتى تحمل كل روائح الخبز، فعلاقته بالشعراء العرب كانت قوية ومتينة خصوصا علاقته بمحمود درويش، وعندما جاء درويش إلى القاهرة، كان طلبه الأول أن يرى الأبنودى، ويصاحبه، ويعرف القاهرة بعيونه. رحم الله شاعرنا العظيم!