لم تكن قضية اللغة ومشكلاتها والأخطاء النحوية والأسلوبية والإملائية المنتشرة عند الكتاب، قضية حديثة، وهى قضية تكاد تكون أبدية، وطالما أن هناك كتابة، فمن الطبيعى أن تكون هناك أخطاء، ولو راجعنا معظم كتابات لأدباء كبار بيننا، أو سبقونا، سنلاحظ هذه الآفة التى تلاحق الكتّاب والكتابة، على كل مستوياتها الصحفية والأدبية والبحثية، وكتب الروائى صنع الله إبراهيم فى مقدمة الطبعة الثالثة من روايته «تلك الرائحة»، عن اكتشافه لهذه الأخطاء فى روايته الأولى، وفى مقدمة يوسف إدريس لها، رغم أن تجاوز هذه المشكلة آنذاك كان يسيرا، فالمصححون كثيرون «وبشلن -كما كتب صنع الله- تستطيع أن تنقذ كتابك من هذه الأخطاء». وهناك أدباء كذلك أفلتوا من هذه الآفة لدقة توخيهم صحة اللغة، ودأبهم العالى فى معرفة أسرارها، ولم يكن ذلك على المستوى النحوى والتركيبى والأسلوبى فحسب، بل كذلك على المستوى الفنى والوجدانى، ومن بين هؤلاء بالطبع نجيب محفوظ ويحيى حقى وسليمان فياض وصلاح عبد الصبور وغيرهم. وما زالت هذه الآفة تعمل بقوة وضراوة فى دور النشر الخاصة، والمؤسسات الثقافية الكبرى الحكومية، وهذا يعود إلى تراجع الدقة، والفوضى التى يتعامل بها كثير من الأدباء مع مسألة اللغة، تحت عناوين براقة، ويافطات خادعة. وفى هذا الشأن أثارت مجلة صباح الخير فى فبراير عام 1957 هذه القضية، وكتبت عن الأخطاء المنتشرة فى كثير من الكتب الصادرة فى المشروع المهم، وهو مشروع الألف كتاب ، واختار المحرر أحد الكتب الصادرة آنذاك فى ذلك المشروع، ونوّه عن الأموال الطائلة التى تغدقها وتهدرها المؤسسة الحكومية على الكتّاب والمترجمين دون حساب يذكر. ومن المعروف أن مشروع الألف كتاب كان مشرعا خاصا بترجمة عيون الكتب التى تصدر فى لغات مختلفة، وتتم ترجمتها فى هذا المشروع، بإشراف وزارة الإرشاد القومى فى ذلك الوقت، وتكلّف الوزارة دور النشر الخاصة بطباعة الكتب بمعرفتها، وكان الكتاب الذى أثارت قضيته مجلة صباح الخير ، هو كتاب التاريخ الجغرافى للقرآن لمؤلفه الهندى مظفر الدين الندوى ، والذى ترجمه الدكتور عبد الشافى غنيم، وراجعه الأستاذ حسن جوهر وكيل وزارة التربية والتعليم فى ذلك الوقت! وردّ الأستاذ المترجم ليدفع عن نفسه التهمة، وأحال كل الأخطاء إلى المطبعة المكلفة بذلك، وأنه قام بتنبيه صاحب المطبعة ودار النشر المكلفة بذلك، وهى دار لجنة البيان العربى ، بأن أحد الكتب الصادرة آنذاك يحتوى على 400 غلطة، ولكن صاحب المطبعة لم يأبه بذلك على الإطلاق، وإمعانا فى إحالة الاتهام للمطبعة، يقول المترجم: إننى لم أكتف بذلك فى إدانة المطبعة، وتقدمت إلى النيابة الإدارية بثلاثة كتب فى المشروع، والتى طبعت فى هذه الدار، وجدت فى الأول أربعمئة غلطة مطبعية، وفى الثانى ما يقرب من مئتى وخمسين غلطة، وفى الثالث ما يقرب من مئة وخمسين غلطة . وقد سخر المترجم من ذكر المبالغ السخية التى تدفعها المؤسسة للمترجمين، وقال إنه لم يتقاض سوى تسعة وخمسين جنيها وأربعمئة مليم بالتمام والكمال، رغم أن عدد صفحات الكتاب بلغت مئتين وأربعا وثلاثين صفحة. وبعد أن حوّل المترجم الأخطاء النحوية إلى المطبعة، انتبه إلى بعض الأخطاء الأخرى، مثل اسم المؤلف نفسه، والذى ترجمه إلى نادئى ، بدلًا من الندوى ، واعتمد على أن بعض اللغويين خطّأوا فكرة تعريب الأسماء الأجنبية، ونقلها كما هى دون تحريف، واستند فى ذلك إلى أن الدكتور طه حسين يصر على كتابة اسمه طاها ، مثلما ينطق، وعرّج المترجم على أمثلة أخرى كثيرة. ولكن المدهش أن المترجم عندما تعرض لترجمة آيات القرآن إلى العربية، دون الرجوع إلى الكتاب الكريم نفسه، دافع بقوة عن تحريف الآيات، التزاما بما جاء فى النص الأصلى، وأصل الآية إنا نحن نزلنا الذكر ، وترجمها إلى إنا نحن نزلنا القرآن بالحق ، ويبرر المترجم هذا المسلك بقوله: وقد جاءت فى هامش إحدى الصفحات ذكرت فيها لفظة (القرآن) بدلًا من (الذكر)، وكلنا يعلم المتشابهات العديدة فى آى الذكر الحكيم، ولما كان المؤلف لم يتعرض لرقم الآية وسورتها فقد عرضناها على بعض الثقات ممن كنا نستشيرهم فأقروها .. وهكذا راح المترجم يبحث عن مبررات كلها ليست صائبة. وفى العدد التالى الصادر فى 28 فبراير عام 1957، ردّ مدير المطبعة، ينفى كل ما ورد فى تعقيب السيد المترجم، وقال إن الأصول موجودة، وتوقيع المترجم على البروفة النهائية للكتاب. وجدير بالذكر أن المجلة أثارت القضية مرة أخرى حول كتاب آخر وهو كتاب الحضارة العربية ، للمستشرق الألمانى ى.. هل ، والذى ترجمه الدكتور إبراهيم العدوى، وراجعه الدكتور حسين مؤنس. وفى العدد ذاته كتب الشاعر صلاح عبد الصبور تعقيبا تحت عنوان دفاع المترجم مرفوض ، ونفى عبد الصبور فى تعقيبه، صحة ما ذهب إليه المترجم، حول الالتزام بالنطق الأجنبى، وعدم تعريبه، ووصف ذلك بكسل المترجمين وعدم قدرتهم على البحث الدقيق، وساق أمثلة استخدمها العرب فى ما سبق، مثل ترجمة بلاتو إلى أفلاطون و أبوكريتس إلى أبقراط ، وهكذا، وكشف عبد الصبور عن أخطاء أخرى حملها الكتاب على شاكلة أن المترجم أورد ذى القلاع ، وصحتها ذى الكلاع ، و حماد الراوى ، وصحة اسمه حماد الراوية ، و بيت الفاكه ، وصحة التعبير بيت الفقيه ، وختم عبد الصبور مقاله ب إن كل الخطأ فى كتاب التاريخ الجغرافى فى القرآن هو أن المترجم لم يكلّف نفسه عناء مراجعة المصادر الأصيلة، وهذا أمر غير متوقع من أستاذ للتاريخ فى معهد عال