كنت أتصور البحيرة نتوءات مائية فى طرف النهر، عن يمينه أو عن يساره (لم يكن يهمنى).. أتصورها بحيرة ربما تكون كبيرة أو صغيرة (لم يكن يهمنى أيضًا). ولكنى بُغِتُّ بأن النيل نفسه تحول إلى بحر فى جنوب السد العالى. بحر يمتد بطول 300 كيلو متر، من السد العالى على حافة مدينة أسوانالجنوبية حتى أبو سمبل على حدود مصر مع السودان. بحر من الماء العذب تحيط به الصحراء من جانبيه. صحراء لا نبت فيها ولا حيوان، إلا نباتات برية صغيرة، وحيوانات من النوع الذى ليس للإنسان أى سيطرة عليه. سألت النوبيين: لماذا لا تعمل الحكومة على إعادتكم لتعمروا هذه الصحراء وتزرعوها خضار؟ قالوا لى إن الحكومة لا تريد إعادتنا. ثم تحدثوا عن طريق شقّتْه الحكومة من أسوان حتى أبو سمبل بطول بحيرة النوبة، لكنها تعمدت أن يكون بعيدًا عن البحيرة، حتى لا يتحول إلى جسر يربط بين النوبيين وقراهم الغارقة تحت الماء. أقرب مسافة بين الطريق والبحيرة أكثر من خمسة وثلاثين كيلومترًا (قال واحد من النوبيين). بدأ الدياسبورا النوبى فى أوائل القرن العشرين، حين أقدمت الحكومة على بناء سد أسوان. وكانت النتيجة، ترحيل القرى النوبية القريبة من حدود أسوانالجنوبية إلى حدودها الشمالية. لكن الرحيل الملعون لم يكف عن التمدد إلى أعماق الجغرافيا النوبية. تمدد أكثر نحو الجنوب حين أقدمت حكومة النحاس باشا على تعلية سد أسوان. واكتمل الشتات النوبى ببناء السد العالى فى ستينيات القرن العشرين. لكن النوبيين لا يحملون أى حقد تجاه هذه السدود. يقولون: نحن ضحينا من أجل مصر. لكنهم يصبون غضبهم كله على الحكومات، التى لم تقم بترحيلهم تجاه ضفتى البحيرة. وأصرت على ترحيلهم نحو الشمال، شمال أسوان. بعضهم يتحدث عن سياسة خبيثة وراء الترحيل. كان هدفهم سحق ثقافتنا (يقول واحد من النوبيين).. لكن نوبيًّا ثانيا يرد عليه بحسم: لا.. لا.. الحكومات استسهلت ترحيلنا نحو الشمال ويضيف: الترحيل على ضفتى البحيرة، يحتاج إلى دراسات حول المسافة التى سيصل إليها الماء، بعد بناء السدود. المسافة الصالحة للحياة والبعيدة عن الغرق، لم تكن هناك دراسات كافية عن المساحة التى سيتمدد عليها الماء. ما زال النوبيون يعيشون فى الشتات، إضافة إلى قرى أقامتها لهم الحكومة فى وادى جهنم شمال أسوان. يتساءل حجاج: شوف الاسم: وادى جهنم!! ويضيف من ضفة النهر الذى صار جزءًا من نسيج النوبيين الثقافى، انتقل ناس النوبة إلى الصحراء. يصمت لحظة ثم يقول: ليست الصحراء فحسب.. بل إلى جهنمها! ويشرح كيف أن المدارس فى قرى التهجير لم تجد أطفالًا جددًا يلتحقون بصفوفها لسنتين كاملتين بعد الهجرة! مات أطفال النوبة.. يقول: ماتوا من أمراض الصحراء التى لم تكن أجسادهم تحمل المضادات التى توفر لهم الحماية الكافية من أمراضها.. يحكى أحمد عواض، كيف كان النوبيون يفكون شبابيك بيوتهم ليحملوها معهم إلى قرى التهجير، لتنفتح لهم على المنظر النوبى، الذى تعودت عيونهم عليه. لكنها (الشبابيك) حين حطوها فى جدران البيوت الجديدة، انفتحت على الصحراء.. كانت الصحراء مخيفة بما فيه الكفاية فى ثقافتهم ومخزون معارفهم التاريخى.. من الأمان التاريخى والثقافى الذى تعودوا عليه تاريخيا فى بلادهم، نقلتهم الحكومة نحو خوفهم الثقافى والتاريخى الذى يلف الصحراء، مرة واحدة ومن دون مقدمات.