لم أرَ فرحًا بالدستور فى أى شبر من أرض مصر، مثل الفرح الذى رأيته يبرق فى عيون النوبيين. النوبيون ليسوا أطفالًا فى حضانة، ليصدقوا أن الحكومة ستشمر عن ذراعها وتحطهم فى المراكب، كما جابتهم فى المراكب. ثم تعيدهم إلى نوبتهم الغارقة. لكنهم وجدوا فى مواد الدستور سطرًا يعترف بحقهم. وهو الاعتراف الذى يعنى عندهم أن هناك أخيرًا فى هذا العالم من صار يحس بوجعهم. النوبيون موجوعون ودواؤهم هو عودتهم إلى ضفاف بحيرة ناصر. فى شهر يناير قضيت خمسة أيام بينهم فى أسوان. أنا هنا لست فى معرض الحديث عن أخلاقهم وكرمهم الفائض وولعهم بالحياة والموسيقى والرقص والغناء. محمد منير أيقونتهم المهيمنة والحلم الذى يضخ الحياة فى عروقهم، شبابًا وشِيبا. تقريبا صور محمد منير فى كل مكان واسمه مكتوب على كل الحيطان. هل تريد أن ترى البيت الذى تربى فيه محمد منير؟ هل تريد أن ترى النادى الذى تعلم فيه محمد منير الموسيقى؟ هل تريد أن ترى البيت الذى بناه محمد منير فى أسوان؟ هل تريد أن ترى الرجل الذى يقعد معه محمد منير حين يأتى إلى أسوان؟ إنه أبو السعود حمتى، أبو السعود سيقول لك، أنا آخر نوبى دخل الإسلام. ما معنى حمتى يا أبو السعود؟ جدى كان اسمه حنا متى. هذا ما يريدون أن يقدموه لك. لا تسألهم عن السد العالى.. ولا عن المعابد.. ولا عن الآثار. اسألهم عن ثلاث حاجات، عن الماء وعن الموسيقى وعن قراهم الغارقة. الاسم الذى أطلقه النوبيون على الميدان الرئيسى، فى إحدى القرى لفت نظرى، أنا القادم من سيناء الغارقة فى التحريم. النوبيون أطلقوا على الميدان اسم فنان (مغنى) محلى من أبناء تلك القرية، كان يغنى فى الأفراح، قبل أن تأتيه المنية فى حادثة سيارة. كنتُ مع الأستاذين الجليلين، الروائى حجاج أدول والمخرج أحمد عواض. واحد من النوبيين التفت نحو الأستاذ حجاج وقال: النساء فى البيوت فى غاية السعادة بوجودك يا أستاذ حجاج فى القرية. كان الكلام يَخفِى تحت المجاملة التى يتدثر بها، فرحًا عارمًا بوجود الأستاذ حجاج بينهم. قلت للأستاذ حجاج، فرح الناس بك مرتبط بحلم عودتهم إلى قراهم. سؤال الناس فى النوبة هو سؤال العودة، الباقى خرابيش وتنويعات على ذلك السؤال، ولم نقعد فى مكان إلا وكان حلم العودة هو السؤال الرئيسى وتقريبا الوحيد المطروح بيننا. عزمونا فى حفلة صغيرة لمغنيين نوبيين، كان الغناء يلعب على محورين، النواح على النوبة الغارقة والأمل المتأجج فى العودة. حجاج (العجوز) ليس مولعًا بشىء قدر ولعه بالنوبة. وولع النوبة استدعى الولع بالكتابة. وهو ولعٌ لا يشبه ولع المستشرقين بعوالم الحكايات القديمة وألف ليلة وليلة. ولع حجاج ببساطة، هو الولع الطالع من جرح. لن تسمع حجاج يزعق ولن تراه على وشك أن يفقد أعصابه إلا حين تأتى سيرة النوبة. عندها يبدو حجاج وكأنه جريح نكأت بإصبعك جرحه. لا يحب حجاج المسؤولين ولا يحب الاقتراب منهم. ولا يفهم فى طرائقهم. بل أزعم أنه يستعلى عليها. منضبطٌ فى مواعيده مثل ساعة بيج بن. منطوٍ إلى حد بعيد، لكنه انطواء المكتفى. لا انطواء المريض. المكتفى الذى ليس عنده شىء ليقدمه للآخرين سوى الكتابة. الكتابة قبل الرأى وقبل الخطابة والكلام. لكن حجاج مثل كل النوبيين مولع بمباهج الحياة. حكى لى حجاج كيف كان أهل النوبة يخافون الدراويش.. دراويش الثورة المهدية والإمام محمد المهدى. كان يتحدث بأسى: مرة أهالى إحدى القرى شافوا درويش من بعيد.. من ناحية الجبل جاى يتمايل. تملك الخوف منهم. حطوا النساء والأطفال والحاجات فى حفرات تحت الأرض وغطوها بالقش. ركبوا المركب وهربوا إلى الناحية الأخرى من النهر. ثم وقفوا يراقبون الدرويش.. حين وصل الدرويش إلى النهر، حط يده فى الماء وردها إلى فمه وسقط أرضًا.. مات.. ببساطة كان الدرويش عطشانا. قلت لهم: لن أغادر أسوان حتى أرى شيئين، بحيرة ناصر ومتحف النوبة. باغتتنى بحيرة ناصر ليست بحجم البحيرات التى أعرفها. أنا البدوى القادم من الصحراء لقيت حالى أمام بحر من الماء العذب، عرضه بطول الشوف، يمتد إلى داخل الحدود السودانية مارًّا بمدينة أبو سمبل 300 كيلومتر جنوبى أسوان.. قلت لحالى: نحن قبائل الصحراء نتحارب على بئر ماء وهذا البحر من الماء الحلو متروك للرمال الصفراء؟ كم من البشر يستطيعون أن يعيشوا على ضفتى هذا البحر؟ ولماذا ألقت الحكومة أهالى النوبة فى وادى جهنم (هذه اسم المكان الذى اختارته الحكومة مسكنا للنوبيين بعد ترحيلهم من نوبتهم الغارقة).. وتركت هذا البحر العذب لحصار العراء؟