لم يكن كشف حزب الله عن جاسوس لإسرائيل بين قياداته أمرًا منعزلًا عن مجمل التحولات فى مشهد الصراع فى المنطقة. فقد تبيَّن أن لهذا الجاسوس يدًا بإجهاض كل العمليات الخارجية التى خطَّط لها الحزب، للرد على اغتيال قائده العسكرى عماد مغنية بتفجير بدمشق فى 2008. حيث كان يرأس العمليات الخارجية، وهى الجبهة المتوقعة التى كان سيرد فيها حزب الله على استشهاد مغنية، لكون الجبهة اللبنانية شبه مغلقة بموجب القرار 1701 الذى التزم الحزب بالحفاظ عليه شكليًّا، درءًا للشقاق اللبنانى الداخلى. وتعدَّدت الأقاويل فى تأثير هذا الجاسوس وفداحة هذا الخرق، لكن أهمها فى رأيى أنه كان ضمن قلة قليلة تعلم بمكان وجود نصر الله، ومع ذلك لم تغتاله إسرائيل. وفى ذلك، إن صح، دلالة كبيرة على مضى حزب الله فى تدمير نفسه ذاتيًّا بنجاح كبير عبر انخراطه فى الحرب السورية، بحيث أحجمت إسرائيل عن تعطيله عبر اغتيال نصر الله. ثم شكَّل قصف إسرائيل الأسبوع الماضى لسرية حزب الله بالجولان، الذى أسفر عن استشهاد ابن مغنية نفسه وآخرين، فضلًا عن قيادى بالحرس الثورى الإيرانى، تحولًا جديدًا. فمنذ انخراط الحزب فى حرب سوريا فقد قسمًا كبيرًا من شعبيته العربية وحتى اللبنانية، وأثقل كاهل عناصره وجمهوره بحرب لا تقع ضمن أولويات مقاومته لإسرائيل، خصوصًا مع تورُّط نظام الأسد فى مذابح طائفية ضد أبناء الشعب السورى. قصف الجولان الأخير كشف عدة خبايا، أولها أن الحزب ربما كان بصدد تنفيذ عملية الرد على اغتيال مغنية -التى تأخَّرت لسنوات- ولكن هذه المرة من بوابة الجولان لا لبنان وبمشاركة ابن مغنية. ثانيها أن حزب الله يستثمر بالفعل وجوده فى سوريا لمد نشاطه عبر الحدود إلى داخل إسرائيل، وليس غارقًا بالكامل فى الصراع الطائفى السورى رغم فداحته على عدة مستويات. ثالثها أن النظام السورى الذى جهر من قبل بالتهديد بفتح جبهة الجولان إذا ما تهدَّد عرشه، ربما شعر أن عرشه يتهدَّد بالفعل ولأول مرة منذ بدء الثورة ولذا سمح لحزب الله بالتمدّد إلى الجولان كورقة للضغط. فإطالة أمد الثورة السورية وتعطيل الإطاحة بالأسد كان قائمًا على تفاهم ضمنى بأن الأسد أفضل من غيره لحماية الحدود المشتركة مع إسرائيل. وأن استنزاف سوريا بحرب أهلية هو بالقطع أجدى لمصلحة إسرائيل على المدى الطويل من انتقال سلس للسلطة. لكن ما لا يبدو مفهومًا هو استعجال حزب الله الرد على قصف الجولان من خلال تنفيذ عملية ضد دورية إسرائيلية فى شبعا -أى من لبنان لا سوريا- رغم ما قد يرتبه ذلك من تداعيات خطيرة على الوضع اللبنانى فى ظل فراغ رئاسى وانسداد تشريعى وحرب مرهقة يخوضها جيشه ضد الإرهاب. هنا فقط نتخيّل تمسُّك حزب الله اليائس بإعادة الترويج لنفسه باعتباره مقاومًا لإسرائيل بعد أن أضحى بفضل حليفه السورى قاطع طريق الثورة السورية نحو الحرية. هى إذن قبلة الحياة لحزب الله والتى للمفارقة أهدتها له إسرائيل بغبائها المعتاد ولحسن حظ المقاومين أينما كانوا.