بقلم الدكتور زكى سالم: كم ذا بمصر من تجارب إنسانية قوية ومؤثرة، وخصوصًا فى خضم هذه السنوات الثورية الصعبة، وها هى شابة صغيرة، لم تتجاوز التاسعة عشرة من عمرها، تعد بحق «أيقونة جديدة» للثورة فى مصر عقب بتر ساقها اليمنى من فوق الركبة، بعد إصابتها بطلقتى خرطوش أطلقهما ضابط شرطة عمدا، قبل اعتداء بلطجى عليها بالضرب فى مظاهرة بالإسكندرية. تروى أسماء جمال، الطالبة بالفرقة الأولى بمعهد الخدمة الاجتماعية بالإسكندرية، تفاصيل ما حدث من اعتداء وحشى عليها، فتقول: شاركت بمظاهرة سلمية، فى منطقة سيدى بشر بالإسكندرية، وإذا بقوات الأمن يرافقها بلطجية تعتدى على المسيرة، وفى أثناء محاولتى للهرب من اعتداءات الأمن والبلطجية، قام ضابط شرطة يدعى إبراهيم على مبارك بإطلاق طلقة خرطوش على قدمى اليمنى، من مسافة قريبة جدا، وهو يهددنى قائلا: سأجعلك عاجزة. سقطت على الأرض، وحاولت الزحف والهرب منه، لكنه اقترب منى أكثر، وأطلق طلقة ثانية على قدمى المصابة، قائلا: أنا سأجعلك عاجزة كى لا تشاركى فى مظاهرة مرة أخرى! ثم قام بلطجى يدعى على فاروق (الشهير بزبادى) بضربى على قدمى المصابة بشومة حتى فقدت الوعى . وقد خضعت أسماء لعدة عمليات جراحية، انتهت ببتر ساقها اليمنى بعد عجز الأطباء عن علاجها بسبب الإصابة الشديدة، كما أنها أصيبت أيضا فى ساقها الأخرى لكن تم عمل ترقيع للوريد المقطوع، وأنقذت من مصير قدمها الأولى. وتقول أسماء جمال: نحن جيل تربى على الحرية، والجهاد فى سبيل الله، ولن نسمح لأحد أن يسرق منا ثورة يناير، والله العظيم أنا مش زعلانة أبدًا، بالعكس أنا فرحانة جدًّا إن جزء من جسمى سبقنى للجنة . ولله الأمر من قبل ومن بعد. سنة أولى سجن عام من الظلم والقهر والانكسار، عام كامل من التشويه والتخوين، عام من الحبس الانفرادى، والعقوبة داخل العقوبة، عام من الحرمان من أبسط حقوق السجين التى يتمتع بها رموز نظام مبارك والمجرمون الواصلون وذوو الثروات، عام من قهر الشباب رغم تصريحات بضرورة الاهتمام بالشباب، بينما شباب الثورة فى السجون. بعض الرفاق تضامنوا معى، كتّر خيرهم، والبعض قال لا تضامن مع الخائن عاصر الليمون، رغم أن بعض رموز فيرمونت أصبحوا من رموز المرحلة الحالية، ولكن أحمد ماهر بالذات لا توبة له، فالتضامن معه شبهة لا داعى لها، ولا يشفع له أنه عارض حكم الإخوان منذ الإعلان الدستورى، ولا يشفع له انسحابه من تأسيسية الدستور بعد انكشاف نواياهم الحقيقية، ولا يشفع لماهر أنه شارك فى 30 يونيو، رغم علمه وعلم الجميع أنها لم تكن عفوية 100%، وحتى لو لم يكن تحفّظ على إجراءات ما بعد 3 يوليو! مر عام بالتمام والكمال، وهناك أحداث وتفاصيل لا أنساها، وكل محاولة لنسيانها تؤدى إلى تذكرها بدقة شديدة، للأسف السجن يصنع شرخا عميقا، خصوصا لو كان سجنا ظلما. مر عام كامل وأنا فى الحبس الانفرادى، وجاء توزيع باقى الشباب على سجون أخرى ليزيد الطين بلة، فزادت معاناة الحبس الانفرادى، ولم يعد هناك من أستطيع التحدث معه، ولذلك اسمحولى بتذكر بداية تلك الحبسة، واعذرونى على هذه الفضفضة. كانت البداية مع الإعلان عن مظاهرة لا للمحاكمات العسكرية ، ورفض وضع تلك المواد فى الدستور، كان ذلك يوم 24 نوفمبر 2013، ثم تصاعدت الأحداث مع إصرار حكومة القوى المدنية على إصدار قانون منع التظاهر، دون أى نقاش جاد، فرفضت القانون علنيًّا، وشجعت مظاهرة لا للمحاكمات العسكرية أمام مجلس الشورى يوم 26 نوفمبر، وقد فعلنا أكثر من ذلك عندما حاول مرسى إصدار قانون أخف وأرحم من قانون التظاهر الحالى، ووقتها أقمنا الدنيا ولم نقعدها ضد مرسى، فكيف نصمت على قانون أسوأ بكثير؟! ومن دون تفاصيل تم اعتقال 24 شابا، وأصدرت النيابة أمر ضبط وإحضار لأحمد ماهر، وعلاء عبد الفتاح بتهمة التحريض على المظاهرة، وهذا شرف لا أدعيه، فتحدى قانون التظاهر هو عين العدل. وقبض على علاء من منزله يوم 28 نوفمبر بعد ضربه وزوجته، وقد أعلنت يومها أننى سأقوم بتسليم نفسى طواعية للنيابة صباح يوم السبت 30 نوفمبر، وقد كان. ثم وقعت أحداث مفتعلة أمام محكمة عابدين بعد إعلان النيابة (فجأة) أن التحقيقات فى نيابة عابدين، وليس عند النائب العام كما جرت العادة، ثم صدر قرار حبسى 4 أيام على ذمة قضية التظاهر، قبل أن يقرروا بعدها استبعادى من تلك القضية، وبدء قضية أخرى بتهمة التحريض على التظاهر أمام محكمة عابدين فى أثناء التحقيق معى عن أحداث مظاهرات مجلس الشورى! وجرى تحقيق جديد مفاجئ على قضية جديدة يوم 2 ديسمبر 2013، يوم عيد ميلادى للأسف، وليست هذه الملاحظة التافهة فقط هى التى لا أستطيع نسيانها، هناك بعض المواضيع التافهة الأخرى التى لا أستطيع نسيانها للأسف الشديد! مثل ذلك الشاب الذى أعلن فى أثناء التحقيق معه أنه لو كان يعلم أن أحمد ماهر هو المحرض على المظاهرة ما كان اشترك فيها لأنه يكره الخائن العميل عاصر الليمون! ، ثم وصل إلىّ أنه قال: لو حضر أحمد ماهر إلى الحجز أو السجن فإنه سيقوم بضربه كل يوم لأنه عاصر ليمون، ولبسنا فى مرسى وخان الثورة ولعب سياسة ! لست حزينًا من كلام هذا الرفيق، ولكنى بجد حزين عليه إذ يفكر بهذه الطريقة، رغم كل ما انكشف بعد 3 يوليو، وكل ما يحدث من تضييق، وخيانة لثورة يناير.. للأسف لم يعد هناك من أستطيع التحدث إليه فى أثناء سويعات التريض القليلة، فعلاء عبد الفتاح أصبح وحيدًا فى سجن مختلف، وأنتم منعزلون عن بعض فى سجن آخر، وأنا فى سجن ثالث، ودومة فى المستشفى يعانى من أمراض متعددة، شفاه الله وعافاه، تعالَ يا رفيق لنتناقش، ويفهم بعضنا بعضا، عزلونا حتى فى السجن. وأتذكر أيضًا الفتاة السمراء التى صاحت فى وجهى ليلة التحقيق مع المقبوض عليهم من أمام مجلس الشورى: أنت جاى ليه؟ مكانك مع الإخوان يا بتاع اللمون! وبعد صياحها بثوانٍ ظهر شباب أصغر فى السن، وبدؤوا فى كيل السباب لى وسط صدمتى الشديدة، وكادت تحدث اشتباكات، وهدأ الموضوع بعد تدخل علاء عبد الفتاح ود. ليلى سويف، وطردهم للشباب الذين قال البعض إنهم أمنجية ، وقال البعض الآخر إنهم مراهقون غاضبون ويوجههم الأمنجية المتثورجون . لقد تغيرت كثيرًا فى هذا السجن الانفرادى، وأفقد تدريجيًّا قدرتى على التسامح ونسيان الإساءة، خصوصا لو كانت تجنّيًا وظلمًا. السجن قد يصنع شرخًا كبيرًا فى النفس، وقد يفاجئنا تغير شخصيتنا بعد التجارب الأليمة، فتفقد سلامك الداخلى، أو هدوء أعصابك، وقدرتك على التسامح، أو قدرتك على النوم أو التفكير. ليس بالتجارب المؤلمة وحدها تُثقل الشخصيات، أحيانًا تكون هناك تغيرات سلبية مصاحبة. وما زلت أذكر هؤلاء الصبية المجهولين الذين ظهروا فجأة أمام محكمة عابدين فى أثناء قيامى بتسليم نفسى للنيابة، فحدث زحام وصياح وتدافع وكاميرات وصحافة، وفجأة ظهر شباب لا أعلم من هم، ثم بدأ السباب والتخوين، ولا أعلم من ضرب من، وسقطت نظارتى الطبية، ولا أعرف من هؤلاء وماذا يريدون! وفجأة بدأت الشرطة فى إطلاق الغاز وضرب الشباب، وثمة من سحبنى لداخل المحكمة، وهناك من سرق بعض متعلقاتى.. لم أفهم.. ولم أرَ جيدًا. وبعد التحقيق يوم 30 نوفمبر فى تهمة التحريض على مظاهرة رفض المحاكمات العسكرية، فوجئت بقضية جديدة تتهمنى بإثارة الشغب أمام محكمة عابدين التى لم أكن أعلم أساسًا أن التحقيق سيكون بها، ثم بعد أيام قلائل تحددت جلسة، ثم حكم بالحبس ثلاث سنوات بعد أسبوع من بدء المحاكمة، ثم -هوب- تم تحديد موعد للاستئناف، رغم شهود النفى، ورغم الفيديوهات التى تثبت تهافت الاتهامات، وأنى من تم الاعتداء عليه من مجهولين فى أثناء دخوله المحكمة، ورغم أن كل شهود الإثبات الذين أحضرهم رئيس مباحث عابدين كانوا من المسجلين خطر، ورغم أن الفيديوهات التى قدمها المحامون للواقعة توضح أن عساكر الأمن المركزى هم من حطموا مقاعد المقهى المجاور للمحكمة، رغم كل تلك الدلائل، وعدم أهلية شهود الإثبات، فإن القضاء الشامخ قد أيد الحكم دون أى تغيير، السجن ثلاث سنوات، ومراقبة ثلاث سنوات، وغرامة قدرها خمسون ألف جنيه! وها أنا أنتظر نقض الحكم فى يناير 2015، ولكنى لا أستبشر خيرًا لأننا فى موسم الانتقام من الشباب، وكل من كان له علاقة بثورة يناير! للأسف الشديد يا علاء، لقد خرجت مؤقتًا من معركة الأمعاء الخاوية، فوالدتى التى انتشر مرض السرطان اللعين فى جسدها لا تستطيع تحمل منظرى الذى أصبح مثل المومياء بعد نزول وزنى، وتدهور حالتى الصحية، أولادى أصبحوا يخافون من رؤيتى، وأنا نفسى أصبح يصيبنى الفزع عندما أنظر إلى وجهى فى المرآة.. مَن هذا المومياء ذو العينين الخضراء الجاحظة المرعبة التى تدمع عندما تشعر بالعجز عن علاج أمى التى تحملت الكثير من أجلى طوال 33 عامًا؟ وها هى تلاطم أمواج الحياة من دونى فى هذه المحنة، وليس فى الإمكانيات غير علاج التأمين الصحى البطىء والمكبل بالروتين واللوائح، فبالتأكيد لا أملك تكاليف علاج لائق لها رغم كل أساطير التمويل والثروات، سحقًا لأجهزة المخابرات التى يعلم ضباطها حقيقتى، وحقيقة أنى لم أخُن وطنى يومًا، ولم أتلقَّ تمويلاً يومًا، ولا لدى أى ممتلكات أصلاً، وأن والدتى تُعالج فى التأمين الصحى الفاشل. وحالة ابنتى النفسية تسوء كل يوم، وأصبحت تخاف من الناس، ومن المدرسة، ومن التلاميذ والمدرسين، أصبحت كل زيارة تسألنى: بابا أنت بتعمل إيه فى السجن؟ وليه مش بتروح معانا؟ وليه لابس أزرق زى الناس الوحشين اللى بنشوفهم فى التليفزيون؟ وليه بنشوفك فى التليفزيون فى القفص؟ وليه؟ وليه؟ آسف يا ميرال يا بنتى، آسف يا نضال يا ابنى، آسف يا أمى على عجزى، آسف يا علاء، وآسف يا كل الناس، وآسف يا زوجتى العزيزة على اللى حطيتك فيه من مصاعب ومشكلات ومعاناة، وإن شاء الله أكون معاكم قريبًا ونكمل حياتنا تانى، كل سنة وأنتم بخير. النهارده عيد ميلادى 2 ديسمبر، أنا لوحدى فى الزنزانة زى السنة اللى فاتت، وانتم لوحدكم، بس أنا متأكد إنكم لسه فاكرينّى.. دلوقتى بقى عندى 34 سنة.. خلاص عجزت، واتغيرت.. أتمنى فى عيد ميلادى ال35 أكون معاكم، ربنا كبير.