بات جليًّا أن الحملة الأمريكية ضد تنظيم الدولة الإسلامية فى الشام والعراق «داعش» تمثل أثرا جانبيا غير مرغوب فيه لسياسة «الفوضى الخلاقة»، التى أعلنت وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة كوندوليزا رايس، عام 2005 عزم بلادها على إطلاقها فى الشرق الأوسط كأحد عناصر استراتيجية لخفض الانخراط الأمريكى فى المنطقة. وارتكزت هذه الاستراتيجية على ركيزتين: تمثلت أولاهما فى تقليص الاعتماد الأمريكى على نفط المنطقة، وهى الغاية التى باتت قاب قوسين أو أدنى. أما الركيزة الثانية فهى إفساح المجال أمام قوى جديدة فى دول المنطقة بما يتيح إحداث تغيير سياسى فى بعض الأنظمة الاستبدادية، التى لم تعد مهمة لهيكل المصالح الأمريكية بقدر ما باتت عبئًا عليه، وفى هذا السياق تم تبرير منطق الفوضى الخلاقة. واستندت هذه الرؤية إلى نظرية راجت عقب هجمات الحادى عشر من سبتمبر 2001، وكانت تتحجج بأن دعم الولاياتالمتحدة لأنظمة قمعية واستبدادية فى الشرق الأوسط، وغلق أبواب التغيير الديمقراطى السلمى أمام شعوبه هو العامل الرئيسى فى انتشار التطرف وتعزيز نفوذ التيارات الإسلامية الراديكالية التى باتت تستهدف الولاياتالمتحدة ذاتها. ونادت تلك النظرية بإتاحة الفرصة أمام اندماج تيار الإسلام السياسى، خصوصا، فى عملية سياسية ديمقراطية بما يضمن عدم نزوع هذا التيار إلى منطق التغيير الراديكالى العنيف. إلا أن هذه النظرية، مع صحتها الجزئية، أغفلت حقيقة أن منطق التطرف فى سلوك التيارات التى تتبنى مبدأ السياسة المقدسة ليس ناتجًا فقط عن انسداد أفق التغيير السياسى السلمى أمامها، وإنما ينبع بشكل أهم من تصورها امتلاك غايات مقدسة أو حتمية للعمل السياسى بما يجعلها تنزع بدورها إلى الهيمنة على العملية السياسية واحتكارها، وعدم القبول بأى طروحات مخالفة، بما فى ذلك مجمل قيم النظام الأمريكى المعولم. وبالتالى، فإن إزاحة الاستبداد الفردى أو النخبوى المغلق لمصلحة انتصار استبداد أيديولوجى أو عقائدى لم يكن يضمن تحولا ديمقراطيا حقيقيا، فضلًا عن نزع التطرف الكامن فى البنية الفكرية لتيارات السياسة المقدسة بشكل عام. بعبارة أخرى، لم تُعن هذه النظرية بتأسيس مقومات تحول ديمقراطى، بقدر ما اقتصرت على منطق إزاحة الاستبداد القائم أيًّا كانت مخرجات هذه الإزاحة، استشرافًا لرهانات تحول تنتجه التجربة والخطأ. وعكست سياسة الولاياتالمتحدة رؤية أكثر قصورًا، حيث اعتمدت منطق إحلال الاستبداد ، إذ فى مقابل دعمها إزاحة بعض الحكام المستبدين فى الدول التى رأتها أقل مساسا بمصالحها الاستراتيجية فى المنطقة، سعت إلى استغلال فرصة التغيير السياسى التى أتاحتها ما عُرف ب ثورات الربيع العربى لتمكين جماعة الإخوان المسلمين فى أكثر من دولة من دول الربيع العربى. وقد عدت السياسة الأمريكية تلك الجماعة الأقدر تنظيميا وفكريا على ممارسة الضبط الاجتماعى واحتواء التنظيمات الجهادية الأكثر تطرفًا، وكذلك الأكثر استعدادًا، حسب ما أعلنه قادتها، للتوافق مع مصالح الولاياتالمتحدة الإقليمية. كما كانت سياسة تمكين الإخوان تخدم مصلحة أمريكية أخرى، ألا وهى خلق موازن مذهبى سنى للنفوذ المذهبى الإيرانى، الذى يتوقع تناميه إذا ما تم التوصل إلى تسوية نووية مع حكم الملالى فى طهران، دون حدوث تغيير جوهرى فى نزوعه للهيمنة الإقليمية. إلا أن سياسة التمكين تلك أدت إلى نتيجتين تتعارضان جذريا مع غاية تقليص محفزات التطرف: أولاهما، حدوث صراع مجتمعى شمل أطرافا اجتماعية عديدة، استشعرت مخاطر نزوع الحكم الإخوانى إلى احتكار الحياة السياسية والسيطرة على مؤسسات الدولة. أما النتيجة الثانية فتمثلت فى تصاعد وزن التنظيمات الأكثر تطرفًا وحضورها، سواء فى ظل احتضان الحكم الإخوانى لها، أو فى صدارة مشهد الصراع السياسى والاجتماعى الذى أعقب الإطاحة بالإخوان فى كل دول الربيع العربى . وفى الواقع، فقد أعادت الولاياتالمتحدة بسياستها تلك إنتاج تجربتها الفاشلة فى تمكين تيار الإسلام السياسى الشيعى فى العراق، لكن على نطاق إقليمى هذه المرة. وباتت المعضلة الحقيقية فى اللحظة الراهنة اتساع نطاق عوامل التطرف لتتجاوز حدود المنطقة ذاتها، مثلما يبدو من تدفق عناصر متطرفة للالتحاق بتنظيم داعش من مناطق مختلفة حول العالم، وما يحمله ذلك من احتمالات مواجهة موجة إرهاب ارتدادية ضخمة على مستوى العالم، وأيضا اتساع نطاق الصراع ليشمل قوى وتكوينات اجتماعية مختلفة باتت تواجه تهديدات وجودية. وإذا كانت إدارة الرئيس الأمريكى الحالى باراك أوباما لا تمتلك خيارات كثيرة للخروج من هذه الفوضى، التى أسهمت فى تكريسها من خلال تعزيز سياسة تمكين القوى المتسربلة برداء الدين بعدّها الأكثر تأثيرا فى شعوب المنطقة، فإن الإدارة الأمريكية اللاحقة لن تمتلك رفاهية مواصلة التورط فى صراعات المنطقة لأمد غير محدود، وما قد يولده ذلك من أعباء ليس أقلها فقدان الولاياتالمتحدة فرص تعزيز وجودها الاستراتيجى فى آسيا، لذا فإنه فى ظل تلك الفوضى التى لا يتوافر بها أفق منظور، فضلًا عن رؤية استراتيجية، لتجاوزها، فإن المنطقة سيتعين عليها مواجهة احتمال خروج أمريكى مفاجئ وسريع. ويبرز فى هذا السياق ثلاثة سيناريوهات أمام المنطقة: أولها سيناريو توافق ديمقراطى يبدو أنه يلزم لتوافر مقوماته السياسية والفكرية والاقتصادية نضالات تتجاوز أى مدى قريب، أما ثانيها فهو سيناريو المعازل الطائفية المتناحرة الذى بدأ يتكرس حاليا، وأخيرًا، سيناريو بروز أقطاب إقليمية مهيمنة ومتنافسة، وعلى الرغم من وجود مساعٍ إقليمية لتوفير شروط هذا السيناريو، فإن القوى الإقليمية الفاعلة حاليا لا تمتلك فى حال احتفظت ببناها السياسية الهشة داخليا القدرة على ممارسة هيمنة إقليمية واسعة النطاق، فضلًا عن أن تكون مستقرة. وفى التحليل الأخير، فإن المرجح أنه عبر ضريبة الدم فقط ستُعبِّد هذه المنطقة مستقبلها.