نحن أمام مشهد معقد مليء بالتفاصيل، فهناك مسرح الأحداث بما فيه من دراما وشخصيات تسقط، وأخرى تعلو مثل «الأسطورة»، ولحظات فرح ودموع، وأبطال وعملاء، ولكن بعيدا فى الخلفية هناك «لعبة أمم» تجرى بقوة ما بين لاعبين كبار، وآخرين إقليميين من أجل اعادة صياغة المشهد سواء «بإعادة رسم خرائط الشرق الأوسط»، أو «تغيير النظام الإقليمى فى المنطقة». ومن المدهش أن الولاياتالمتحدة تفكر بعمق فى الأمر منذ عقود طويلة، وخرجت كونداليزا رايس وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة لتتحدث عن «الفوضى الخلاقة» قبل غزو العراق، وفى المقابل فإن البعض هنا لم يكترث، وتصور أن «الشرق الأوسط» عصى على التغيير، ولم يدرك هؤلاء أن ما نراه من عالم عربى وإيران وإسرائيل وتركيا كان نتيجة «هندسة غربية» أو «لعبة أمم» كانت من أبرز مخلفاتها هذه «الصراعات المزمنة» ما بين القوى الفاعلة فى المنطقة، والآن مع تفجر «الربيع العربي» فإن الفرصة باتت سانحة لمؤامرات أو تفاهمات من عينة «سايكس بيكو» جديدة، وفى اللحظة الراهنة يبدو العالم العربى فى أضعف حالاته، إلا أن مصر تصحو من سباتها العميق، ومن انسحابها الطويل، وهى تحاول أن «تحسن أوراقها» فى لعبة الأمم؟! وربما من المفيد أن نتعرف على الكيفية التى تنظر بها واشنطن لما يجرى بالمنطقة، فوفقا للخبير الاستراتيجى أنتونى كوردسمان بمركز الدراسات الدولية والاستراتيجية فإن الولاياتالمتحدة والعالم يجب أن يدركا أن «الربيع العربي» سيكون على أقل تقدير عقدا من الأزمات التى ستؤثر على إيران وإسرائيل مثلما ستؤثر على الدول العربية، هذه الصورة القاتمة هى خلاصة تقييم كوردسمان الذى سبق له العمل مع المرشح الجمهورى للرئاسة جون ماكين لما يجب أن تتوقعه الولاياتالمتحدة وحلفاؤها من الشرق الأوسط، ويذهب كوردسمان أبعد من ذلك عندما يقول إن «حالة عدم الاستقرار الواسعة بالمنطقة» سوف يمتد تأثيرها إلى دول الجوار الأخرى مثل تركيا والقرن الإفريقي، فضلا عن الدول التى تعتمد على صادرات البترول من المنطقة، والتجارة معها وطرق الترانزيت بها (يقصد الممرات البحرية وفى مقدمتها قناة السويس وخليج هرمز). وبينما يرصد كوردسمان أحد أبرز الخبراء الأمريكيين بالمنطقة تفاوت تأثير هذه الأزمات على دول المنطقة، إلا أن المفزع هو تأكيده أن معظم هذه الدول سوف تعانى على مدى نصف عقد من الزمان أو أكثر، من اضطرابات وتغييرات فى النظم الحاكمة من خلال الانقلابات فضلا عن «الحرب الأهلية» أو اضطرابات شعبية واسعة النطاق، وبالإضافة إلى ذلك فإن هذه الدول سوف تشهد أعمال عنف مذهبية أو عرقية أو قبلية أو مناطقية، فضلا عن الحروب أو الصراعات على السلطة مع دول الجوار، وذلك فى أثناء عملية التحول، وأيضا جنوح عناصر العنف فى السكان إلى الراديكالية، مما ينجم عنه «التطرف العنيف» والإرهاب والذى سيقابل بعمليات قمع عنيفة! وهنا يجب ألا ننتظر مجيء الآخرين لمساعدة شعوب المنطقة، وبالأخص مصر، ولن يفيد فى شيء الجدل العقيم حول من فجر الربيع العربي، وهل هناك «أصابع خارجية» تلعب لاستمرار «النمر المصري» فى سباته وابتعاده وعدم تأثيره بل وإغراقه فى «حزام الإرهاب»، الشيء المؤكد أن هذه الأصابع باتت معلومة.. وردا على سؤال من يمول الحركات الاحتجاجية ومن يقف خلفها فى دول الشرق الأوسط فإن البروفيسور بجامعة أوتاوا الكندية مايكل شوسودوفسكى يقول إن جماعة الإخوان وحركة 6 أبريل وحركة كفاية تتم السيطرة عليها من قبل المخابرات المركزية الأمريكية والبريطانية، وأسهب الرجل فيما بات معروفا الآن عن التدريب فى صربيا وشعار القبضة التى تم استخدامها فى العديد من الثورات الملونة، وكيف أن منظمات مثل أوتبور وكانافاس، ومؤسسة فورد، وفريدم هاوس، والوقفية الوطنية من أجل الديمقراطية على صلة وثيقة بالخارجية الأمريكية والكونجرس الأمريكى والمخابرات الأمريكية، ويرى أن مؤسسة فورد هى التى «تصنع المنشقين» وهنا بالطبع نحن لا نقول إن ما حدث فى 52 يناير بأكمله كان من صنع «الأصابع الخارجية»، فبالتأكيد كانت هناك ثورة شعب رفض الاستبداد والفساد وتوريث الحكم وعدم استقلال القرار الوطنى فى عهد مبارك، إلا أن الحقيقة تقتضى منا أن ندرك أن الواقع معقد، وأن المشهد كان فيه عناصر لديها ارتباطات خارجية، وأن جماعة الإخوان تمكنت فى غفلة من الشعب أن تقفز على السلطة، ولم يدرك الكثيرون لحظتها «الصفقات المريبة» لتقسيم الوطن والتآمر على تصفية القضية الفلسطينية على حساب مصر ووحدة أراضيها. وفى اللحظة الراهنة يتضح أن القوى ذاتها وراء «الثورات الملونة» و«الإرهاب».. فوفقا للخبير الاستراتيجى المصرى خالد عكاشة فإن «البؤرة الإرهابية» فى سيناء لم تكن نتيجة التطوير الذاتى أو غفلة سياسية من القاهرة، بل نتاج «ترتيبات أقليمية» ولقد نجحت أجهزة المخابرات بعدة دول دولية وإقليمية، فى زرع «شجرة إرهابية» من قبل عناصر إرهابية اكتسبت خبرات متقدمة نتيجة لخوضها معارك كبري، فى أفغانستان والبلقان والشيشان وأماكن أخري، ويرى عكاشة أن ما حدث فى سيناء هو استنساخ لما يحدث فى دول أخري، ويقول إن هذه البؤرة عادة ما تنحسر وتخسر معارك، إلا أنها تعاود الظهور ثانية! وفى الحالة المصرية علينا أن نعود بالذاكرة إلى حقبة التسعينيات وكيف تصورنا انحسار الإرهاب ليطل علينا من جديد الآن.. السؤال: من المستفيد؟ ومن يروى هذه الشجرة الملعونة؟! الإجابة تدلنا بوضوح على من يريد إضعاف مصر، ومن يريد أن يأخذ دورها، ومن يريد إخضاعها أكثر وأكثر؟! ويبقى أن البعض لا يريد أن يصدق وقائع التاريخ، أو فكرة الصراع أو لعبة الأمم، فها هو أحد أبرز المفكرين الاستراتيجيين الأمريكيين جورج فريدمان فى كتابه «العقد القادم» يقول لنا بوضوح إن «الغزوات الأمريكية خلال حقبة التسعينيات كانت هجمات للإفساد، وأن هدفها الأول والمباشر هو «إغراق» قوة اقليمية ذات طموح فى الفوضى أو إجبارها على التعامل مع تهديدات داخلية وإقليمية فى التوقيت والمكان الذى تختاره الولاياتالمتحدة بدلا من السماح لها بمواجهة واشنطن وفقا لتوقيت هذه الدولة الصغيرة»! ترى هل تبدو هذه المسألة مألوفة، أغلب الظن أن الحروب الكثيرة التى شهدتها المنطقة، والتى مررنا بها فى مصر تبرهن على صحة ذلك، ولقد كانت مصر دائما فى خضم «لعبة الأمم»، سواء ذهبت للتحدى واستقلال قرارها الوطني، أو رهنت 99% من أوراق اللعبة فى أيدى واشنطن! والآن نحن فى خضم دور جديد من لعبة الأمم، والغريب أن هذه المرة اللعب على المكشوف وبصورة واضحة.. فواشنطن لن تتخلى عن «بنادق الإخوان» أو عساكر 6 أبريل، وسوف تستمر فى سقاية شجرة الإرهاب، ونحن من جانبنا لم نذهب إلى ساحة اللعب باختيارنا، كما أننا لن نلعب «معركة مفتوحة» بلا عقل، بل سوف نستمر فى اللعب وسنزيد أوراقنا، و«الورقة الروسية» مجرد ورقة مهمة.. ومن المؤكد أن اللعب سيحلو فى المستقبل القريب! لمزيد من مقالات محمد صابرين