تخيل معى ما الذى يمكن أن يحدث لو ظهر على شاشات التلفاز كاتب أو مذيع فى أول أيام عيد الفطر وقال للناس وهو يضحك: كل سنة وإنتو طيبين، ها هو رمضان قد ذهب فدعونا نخرج من سجن الطاعات الذى كنا محبوسين فيه ونعيش حياتنا قليلا. غالبا لن ينتهى به اليوم إلا وقناته التليفزيونية أو الصحيفة التى يعمل فيها محاصرة بآلاف البشر الذين يطلبون رقبته ويهدرون دمه، وربما وجدوه بعدها بأيام مطعونا بخنجر فى رقبته من شخص غيور على الدين، وفى أحسن الأحوال سيطارده بدل المحامى عشرون مطالبين بإيقاع أقصى العقوبة عليه لقيامه بازدراء الدين الإسلامى. منذ أقل من مئة عام خرج أمير الشعراء أحمد شوقى على الملأ بقصيدة جديدة أغلب الظن أنها نشرت فى صدر الصفحة الأولى من أكثر الصحف انتشارا كعادة قصائد شوقى التى كانت تباع الصحف بها، كان مطلع القصيدة يقول صراحة: رَمَضانُ وَلّى هاتِها يا ساقى.. مُشتاقَة تَسعى إِلى مُشتاقِ ما كانَ أَكثَرَهُ عَلى أُلّافِها.. وَأَقَلَّهُ فى طاعَةِ الخَلّاقِ اللَهُ غَفّارُ الذُنوبِ جَميعِها.. إِن كانَ ثَمَّ مِنَ الذُنوبِ بَواقى بِالأَمسِ قَد كُنّا سَجينَى طاعَةٍ.. وَاليَومَ مَنَّ العيدُ بِالإِطلاقِ لم أقرأ فى المراجع التى تحت يدى عن حياة شوقى أنه تعرض بسبب تلك القصيدة لمحاولة اغتيال أو لدعوى حسبة ولم يوضع تحت الحراسة المشددة بسببها، ليس لأن مصر لم يكن بها أناس غيورون على الدين وقتها، بل لأن الناس الغيورين على الدين كانوا يجيدون قراءة الشعر ولا يحكمون على القصائد من مطالعها بل يكملون قراءتها حتى النهاية، نعم تعرض شوقى للانتقاد الشديد بسبب مطلع القصيدة الذى رآه البعض صادما وجارحا، ربما كانت المفارقة أنه يتعرض للتكفير الآن أكثر مما تعرض له فى أيامه من قبل معاصريه ولو أكمل هؤلاء القصيدة لوجدوها قصيدة وطنية بل وأخلاقية أيضا، وما كان مطلعها الصادم إلا لعبة فنية من شاعر أراد أن يجذب قراءه إلى قصيدته وهو يحدثهم عن الكأس التى اشتاق إلى شربها، قبل أن يتضح هدفه الحقيقى من القصيدة عندما يقول لساقيه: لا تَسقِنى إِلّا دِهاقا إِنَّنى.. أُسقى بِكَأسٍ فى الهُمومِ دِهاقِ فَلَعَلَّ سُلطانَ المُدامَةِ مُخرِجى.. مِن عالَمٍ لَم يَحوِ غَيرَ نِفاقِ وَطَنى أَسِفتُ عَلَيكَ فى عيدِ المَلا.. وَبَكَيتُ مِن وَجدٍ وَمِن إِشفاقِ لا عيدَ لى حَتّى أَراكَ بِأُمَّةٍ.. شَمّاءَ راوِيَةٍ مِنَ الأَخلاقِ ذَهَبَ الكِرامُ الجامِعونَ لِأَمرِهِم.. وَبَقيتُ فى خَلَفٍ بِغَيرِ خَلاقِ أَيَظَلُّ بَعضُهُمُ لِبَعضٍ خاذِلا.. وَيُقالُ شَعبٌ فى الحَضارَةِ راقى وَإِذا أَرادَ اللَهُ إِشقاءَ القُرى جَعَلَ الهُداةَ بِها دُعاةَ شِقاقِ إِنّى أُجِلُّ عَنِ القِتالِ سَرائِرى إِلّا قِتالَ البُؤسِ وَالإِملاقِ وَأَرى سُمومَ العالَمينَ كَثيرَة وَأَرى التَعاوُنَ أَنجَعَ التِرياقِ لو كان شوقى رحمه الله قد قال قصيدته هذه فى أحد برامج التوك شو صبيحة يوم العيد، لما كان أحد سيتركه يكملها مع أنها تبدو مكتوبة خصيصا لنا ولأيامنا التى يحلو لنا أن نقاتل بعضنا فيها بدلا من أن نتفرغ لقتال البؤس والفقر، لم يكن أحد سيلتفت إلى ما قاله عن دعاة الشقاق الذين تشقى بهم القرى، ولا عن بكاء شوقى فى يوم العيد على وطن يحتاج إلى ترياق التعاون لكى يتعافى مما هو فيه. لحسن الحظ لم يهدر أحد دم شوقى يومها، ليعيش ويكتب بردته الشهيرة فى مديح النبى عليه الصلاة والسلام والدفاع عن الإسلام فى وجه دعاوى بعض المستشرقين: «ريمٌ عَلى القاعِ بَينَ البانِ وَالعَلَمِ.. أَحَلَّ سَفكَ دَمى فى الأَشهُرِ الحُرُمِ»، بالإضافة إلى قصيدتين رائعتين فى مديح النبى أبدعت فى غنائهما كوكب الشرق أم كلثوم هما «وُلِدَ الهُدَى فَالْكَائِنَاتُ ضِيَاءُ.. وَفَمُ الزَّمَانِ تَبَسُّمٌ وَثَنَاءُ»، وقصيدة «سَلو قَلبى غَداةَ سَلا وَثابا.. لَعَلَّ عَلى الجَمالِ لَهُ عِتابا». للتسامح مع جموح الأدب فى ثقافتنا الإسلامية مسيرة طويلة بدأت قبل شوقى بكثير. كان لدىّ تمرين مشهور أمارسه مع بعض أصدقائى المتشددين، أقول لأحدهم إننى أفكر فى كتابة حكاية ضاحكة بطلها مؤذن أو إمام أو شيخ، فيقول لى إننى سألقى الويل والثبور وعظائم الأمور إذا نشرتها، ويشعر بالصدمة عندما أخرج له كتابا تراثيا للإمام السيوطى مفسر القرآن أو الحافظ الثعالبى وأقرأ له الحكاية من داخله، ثم أعدد له كتب التراث التى كتبها الحفاظ والمفسرون بهدف الترويح عن النفوس وكانت مليئة بالحكايات الجريئة والصادمة، ولم يعتبر أحد منهم أنه يفعل شيئا منكرا بكتابته لها وروايتها للناس، فقد كانوا يستمدون ذلك التسامح من سيد الخلق محمد عليه الصلاة والسلام. يروى ابن عبد ربه فى «العقد الفريد» أن الرسول أوصى بأن يصلى بنفسه على فتاة سمراء، كانت تتردد على السيدة عائشة وتضحكها، وقال وهو يصلى عليها: اللهم إنها حريصة على أن تضحكنى فأضحكها فرحا. حتى عندما كانت السخرية تصبح متجاوزة وتزيد على حدها، تعالوا ننظر كيف كان النبى يتعامل معها، هذه المرة سأنقل عن البخارى بجلالة قدره الذى روى فى صحيحه فى كتاب المغازى أن السيدة أم سلمة رضى الله عنها قالت: «دخل علىّ النبى صلى الله عليه وسلم وعندى مخنث، فسمعه يقول لعبد الله بن أمية: يا عبد الله أرأيت إن فتح الله عليكم الطائف، فعليك بابنة غيلان، فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان»، ينقل المحقق عبد السلام هارون رحمه الله فى (كناشة النوادر) عن ابن حجر العسقلانى وغيره تفسير ذلك القول بأنه سخرية من سمنة السيدة المفرطة بحيث تبدو لعظم ثدييها ويديها كأنها تمشى مكبة على وجهها، ومع ذلك لم يطلب الرسول عقابه ولم ينفعل عليه بل اكتفى طبقا لنص الحديث بأن يقول «لا يدخلن هؤلاء عليكم». ليست هذه دعوة للسخرية الجارحة من البشر، بل هى دعوة للتسامح مع الشطط الإنسانى، دعوة لئلا يُنَصِّب البعض أنفسهم حكاما وجلادين على من يخرج على الخطوط التى يحبون أن يسيروا عليها، دعوة لأن نكف عن الحروب الهوجاء التى يهوى البعض شنها ضد عمل فنى أو أدبى لن يضره لو اجتنبه وتركه لمن يريده وشغل نفسه بما ينفع، مكتفيا بإنكار ما يراه منكرا دون تكفير أو تجريح. كل سنة وإنتو طيبين.