جمعة العشرين من أبريل 2012 جمعة مثيرة للشفقة، تدعو إلى التأمل، فميدان التحرير هذه المرة غريب عن روح الثورة، أشبه بالثور الهائج الذى ينطح بلا هدى ولا هدف حتى تُستنزَف قواه، فيقف فى النهاية منهكا غير قادر حتى على النطاح العشوائى. هذا هو ميدان التحرير الذى يتحدث فجأة عن يافطة تطالب بتسليم السلطة بعد أن كان هذا المطلب غير مطروح من القوى الرئيسية المهيمنة على البرلمان، وتنادى به اليوم بنبرة زاعقة، مما يشكل انقلابا لدعوات سابقة مستميتة تتحدث عن أهمية الالتزام بخريطة الفترة الانتقالية والتمسك -بقوة- بهذا الالتزام حتى تتحقق الشرعية. هؤلاء هم الإخوان الذين كالوا الاتهامات مع السلفيين لشباب الثورة الحقيقيين والادعاء بأنهم مخربون يسعون لهدم الدولة، حينما كانوا يدعون إلى تسليم السلطة. المهم أن هذا التحول الذى يأتى على العكس تماما مما كان الإسلام السياسى يتبناه، ليس ناشئا عن مراجعة مخلصة وموضوعية لما يجب أن تكون عليه المواقف، ولكنه ناتج عن انتهازية سببها أن رياح المجلس العسكرى لم تعد تدفع شراعهم فى اتجاه الهيمنة الكاملة على جميع سلطات الدولة. باع الإخوان والسلف من قبل الثوار والقوى السياسية، الذين لا يقفون فى خندقهم، وفعلوا ذلك فى مواقف عديدة، لا داعى لإعادة ذكرها، فالناس أصحبت تحفظها عن ظهر قلب، لأن خذلانهم لقوى الثورة كان رخيصا ومنحطا، وحينما شعر تيار الإسلام السياسى بأن الرياح لم تعد مواتية، عاد إلى ميدان التحرير الذى كان ينكره من قبل باعتبار أن الشرعية بعد انتخابات مجلس الشعب صارت ملكا موثقا بإرادة الكتلة التصويتية للنواب، هذا التناقض والتضارب مع الميدان بعد عودتهم إليه وتمسكهم بأن يكونوا موجودين فى اليوم الذى حددته القوى الثورية من قبل هو تمحُّك بتلك القوى التى أصبح من الضرورى الاستعانة بها مرة أخرى للاستئساد فى مواجهة المجلس العسكرى حتى يرضخ لتحقيق مطالبهم التى تحقق أهدافهم أو إعادة جدولة القضايا المعلقة بينهم وبين المجلس. من المحزن والذى يصل بالأسى إلى أقصى درجاته، أن القوى الثورية تذهب إلى الميدان فى هذا اليوم، بينما بدأ الإخوان المسلمون بمناورة خبيثة للتلاعب بمعايير تشكيل «التأسسية» والقفز على هذه اللجنة التعيسة مرة أخرى لتمرير أهدافهم، وهنا عند هذا الحد يجب التوقف وإعادة قراءة المشهد فى ميدان التحرير، رغم ما به من ضجيج وزحام ويمكن تلخيصه فى الآتى: أولا- إن الصخب والصوت العالى فى الميدان لا يعكسان وحدة الهدف أو المضمون أو الرؤية حتى فى عموميتها، وكان لكل مجموعة أو قوة سياسية على أرض الميدان غاياتها الخاصة التى قد تتضارب مع الشعارات المرفوعة. ثانيا- القوى الثورية الداعية لهذا اليوم ليست القوة الغالبة عدديا، إذ يفوقها فى الكم أنصار التيار الإسلامى الذين يسهل حشدهم فى يوم الجمعة تحديدا، حيث الصلاة الأسبوعية الجامعة، إضافة إلى الطاعة عند تلقى التعليمات بالتوجه إلى الميدان. ثالثا- يتيح وضع التوازن بين القوى لصالح الإسلاميين على الأرض فى يوم هو فى الأصل قد تم بدعوة ثورية، يتيح لقادة الإسلام السياسى إرسال إشارة جديدة إلى المجلس العسكرى محمَّلة بمدلولات التهديد المبطن. رابعا- يسعى الإسلام السياسى لاستغلال براءة وطيبة القوى الثورية للضغط بهم فى محاولة لتعديل المادة 28، لتصبح بعد التعديل سيفا مصلتا على رقبة المجلس العسكرى، إذا انصرف الناخبون عن مرشح الإخوان، وعلى الرئيس الجديد إن كان من خارجهم. خامسا- دون الادِّعاء بقدرة عميقة على التحليل والاستقراء، ما إن تنتهى هذه المرحلة سوف تقوم قوى الإسلام السياسى بإعطاء ظهرها للميدان وللثوار. سادسا- مع غياب وحدة الهدف وغموض نتائج ما يترتب عن تظاهرة الميدان الملتبسة، سوف يصبح من السهل على المجلس العسكرى أن يستكمل خطته فى القنوات التى قرر أن يسير فيها دون عناء. سابعا- هذه جمعة سوف تكون وقائعها كاشفة لتشرذم القوى الثورية وتفتتها وارتباكها، مما قد يكون سببا لبداية عقلانية تفرضها تداعيات الواقع من أجل البدء فى تشكيل بناء جامع تتجاوز به هذه القوى محنة قد يكون البعض غير ملتفت إليها. ثامنا- أغلب المسيرات التى تحركت من مواقع مختلفة داخل القاهرة نحو ميدان التحرير كانت تضم بعض السلفيين وكثيرا من القوى الثورية، بينما هبط الإخوان المسلمون على الميدان دون التحرك فى مسيرات، وهذا السلوك لا يستبعد أن يكون إحدى أدواتهم فى مرحلة ما قادمة قد تؤدى إليها التطورات، حيث يُستنزف الآخرون فى المسير ويقفزون هم على السلطة التى يتربصون بها وقد ادخروا جهدهم لها. تاسعا- ظهور لافتات فى الميدان تهاجم بها قوى سياسية قوى أخرى، وهذا يمكن أن ينتقل بخشونة العلاقة فى الخلاف الأيديولوجى إلى منحنى تصادمى أكثر عنفا. عاشرا- التصور البرىء باستعادة ميدان التحرير بزخمه وقيمه فى الأيام الثمانية عشر إبان الثورة لا يزيد على كونه وهمًا، وأن ذلك لن يتحقق فى المدى القريب وربما المتوسط، لأن الازدحام الذى شهده الميدان أخيرا كان شكليا.. حادى عشر- أثبتت التظاهرة الأخيرة أن دعاوى الاصطفاف والتجاور والتلاحم على مبادئ متفق عليها بين مختلف القوى السياسية تحديدا، ينتهى دائما فى خانة المناورات والألاعيب السياسية من قوى الإسلام السياسى، وأن الأجدى القبول بقيم الاختلاف فى إطار ديمقراطى يصون المصالح الوطنية. ثانى عشر- فى تراجع مزرٍ تبنَّى الإخوان المسلمون فى الميدان شعار «لا دستور تحت حكم العسكر»، لا سيما بعد دفاعهم عن النهج المعاكس، عندما حشدوا الناس بقول «نعم» على التعديلات الدستورية فى 19 مارس 2011 ضد ما كانت تنادى به القوى الثورية المستنيرة، والسبب فى ذلك أنهم يخافون الاصطدام بالعسكر، ويأملون بعد وصول رئيس للبلاد فى الضغط عليه وإخافته من أجل تحقيق مآربهم فى دستور يتماشى مع أهدافهم.