قال تعالى «ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله» (البقرة 165). فمعظم الناس يتعلقون بالحب الخطأ، ويندفعون بجنون فى تشبثهم بالضلال المبين! ومن ثم فطريقهم نهايته معروفة. وفى كتابها البديع عن «التصوف»، تقول إيفلين أندرهيل «كل البشر فى لحظة أو أخرى يحبون الحق سبحانه، ولكنه حب عابر عند الغالبية، إذ يتراجعون عنه سريعا منتقلين إلى الحياة الدنيا. بينما هناك من يكرسون كل حياتهم من أجل محبته» سبحانه وتعالى. والغالبية العظمى يتراجعون عن حبه تعالى لسببين: الأول أنهم يجهلونه، والآخر أن قلوبهم مشغولة بعالم المادة. وهؤلاء ينطبق عليهم قول الرحمن «وما قدروا الله حق قدره» (الأنعام 91). ولذلك يقول الغزالى «المعقول المقبول عند ذوى البصائر حب الله تعالى فقط. كما أن المعقول الممكن عند العميان حب غير الله تعالى فقط»، ولنتذكر هنا ما قالته العرب عن المصطفى عليه أفضل الصلاة والسلام، إذ قالوا «إن محمدا عشق ربه»، وهذه تجربة روحية يتحققها بالذوق من سلك سبيلها. فمن يتأمل فى نعمه، وهى لا تحصى، يقع لا محالة أسيرا فى حبه سبحانه، إذ إن رؤية المنة مفتاح التودد. وثمة من يجذبهم الحق إليه بواسع مغفرته، وعجائب رحمته، ولذا يقول ابن قضيب البان «رأيت كيفية المكر الإلهى فى صورة المحبة، وكيفية استدراجه القلوب الغافلة عنه إلى معرفته»، كما يقول الشبلى «لولا أنه تعالى بدأهم بالمحبة وهداهم ما أحبوه»، أما أبو اليزيد البسطامى فيقول «ليس العجب من حبى لك وأنا عبد، بل من حبك لى وأنت ملك قدير». وإذا كان هذا الحب العظيم هو العطية الإلهية الكبرى، فهو أيضا موهبة روحية للإنسان السوى، باعتباره فن تأسيس الوعى البشرى على الارتباط بالمطلق. ومن ثم يقول عنه جلال الدين الرومى «الحب دواء داء كبريائنا وغرورنا بأنفسنا. وهو الطبيب لضعفنا كله»، إذ إن فى قلب كل منا وجعا لا يبريه إلا حبه، ولا يستنطقه إلا الأنس به. وفى كتاب «منطق الطير» يصف فريد الدين العطار قيادة هذا الحب للعشاق عبر دروب الطريق الروحى، «مضحين بأرواحهم، يتقدمون وقد قصروا أيديهم عن العالم، وتحملوا وسط ذلك آلام الروح، كما خلصوا القلب من الدنيا كلية، وما إن خلصوا أرواحهم من الكل، حتى أصبحوا فى خلوة مع الحبيب»، فمن سافر فى طريق المحبة -كما يؤكد أبو طالب المكى- غنم المؤانسة والألفة. بل إن لذة القرب فى الأنس تطيّر ألباب العارفين. إنه بحر الحب الإلهى، أعمق بحار الوجود قاطبة، لذلك جاء فى إنجيل يوحنا «اثبتوا فى محبتى» (الإصحاح الخامس عشر 9). إنه دين الحب والمحبة، كما يقول ابن عربى «أدين بدين الحب أنَّى توجهت ركائبه فالحب دينى وإيمانى»، فهذه العلاقة الروحية أساسها الحب، ولذلك يصفهم سبحانه بقوله «يحبهم ويحبونه» ( المائدة 45).