هذه «سفينة» الشاعر والروائى إبراهيم المصرى للنجاة من الخراب، دونها بعد سنوات عمل خلالها كمراسل تليفزيونى حمل فيها على كاهله طبقات من التجربة، مسلحا بخبرة مكنته من مراقبة «برعم» الداعشية وهو يقفز من عقول الأصوليين المقفرة، وألسنة مشايخهم الجلفة، لينمو وسط خرابات العرب، ويتعملق فيزرع الحرائق وينصب المفخخات ويجز الرؤوس، ويجتاح الأراضى الخضراء. كتب المصرى «داعش وأخواتها: نصوص الإرهاب» كتحدٍّ للخراب، شاهد الدواعش يحرقون الكتب المسالمة فى مكتبات بيوت الموصل، ووثائق الكنائس المتوارثة فى خزنة المحبة وينقبون بين صفحاتها عن حيثيات ممارسة الحياة، وأبجدية الحب، أى حب، فأفرغ ذاكرته، بما تضم من تأريخ للداعشية، وجذورها ومشايخها، وآليات خداعها وأقنعتها، على صدر شهادته الممهورة بختم الرفض، ومشهورة على أسنة حب الحياة، لتعود السفينة أدراجها تلاحق الخراب وتأكله بالأخضر. هى سطور مكثفة لرؤية طويلة، أو بتعبير إليوت «قصيدة طويلة جزء منها على الورق». هى ذاكرة ليست للنسيان، بل للمقاومة، تثق فى النصر. فى السفينة، يحمل المصرى نصه النبوءة، بحتمية الانتصار، وجدوى المقاومة بسلاح الشعر، فبينما تجز الرؤوس وتحطم تماثيل الشعراء تبقى كلماتهم عالية فى الأفق بعيدة عن مرمى السيوف: (بانتصابِ قامته شامخا فى سوريا، يلوَّحُ أبو العلاء المعرى إلى أبى تمام، بانتصاب قامته شامخًا فى العراق. ودعونا من رذيلةِ داعش فى تحطيم تمثالِ كلِّ منهما، داعشُ لم ترَ الشِّعرَ غيمة، ترتفع فوق التمثالين). فى صيحة المصرى، يقر أن الدواعش يحتاجون إلى تربة ملوثة، وبرك آسنة، يغيب عنها الهواء، والشغف الطارد للجراثيم: (لكل أمَّة.. مافياها، وداعشُ.. مافيانا. هذا إذا كنا.. أمَّة). وتلك التربة تحالف على تخريبها وتهيئتها للقتل ساسة، ودجالون، ومستبدون، وتجار للدين، بينما يشهر المقاومون كلماتهم بأصوات منهكة: (فيما كانت الأنظمةُ ومنها النظام المصرى، تُلقى بنا فى شِراك الفقر، كان الداعشيون الإخوان، يصطادوننا بكل بساطة. صحيح أنهم لم يستعبدوا إلا عددا قليلا من الأدمغة، وقد حولوها إلى أرضٍ بوار، لكن اللعبة مستمرة، أنظمة من هنا.. داعشيون من هناك، ونحن لا قدرةَ لنا حتى على الفرار من المعارك، ولا نملك ما نُطعم به يومنا، فكيف نملك بندقية نطلق رصاصها على الجميع؟). وحينما يكبر البرعم، وتتناثر البرك الآسنة، يحين وقت تكاثره وانتقاله، وتربية دواعش جدد، وهنا تتنوع مداخل الإخصاب: وبعد التجنيد تبدأ رحلة البربرية، واندثار الورود: (ما من مرةٍ، سترى زعيما داعشيا، أو قائدا قاعديا، أو مُتجهما سلفيا، أو نطعا إخوانيا، يخطبُ وأمامه.. باقةُ ورد. الورود مؤجلة للجنة، حيث ينعمُ بها هؤلاء مع الحور العين. فلماذا لا يؤجلون نساءَ الدنيا مع الورود للاستمتاع فى الجنة؟). إلى أن تصل النبوءة إلى حتمية التقاتل وانكسار المشروع، لأنه لم يُجِب على الأسئلة الأبدية، كيف تتداول السلطة، بلا دماء: (انتهى الداعشيون، إلى أن أبا بكر البغدادى، هو «خليفة المسلمين».. والحجة الكبرى فى ذلك، أن اسمه ينتهى بلقب «القرشى». لن أجادل: ماذا لو مات البغدادى؟ من أين نأتى بقرشى آخر؟ على اعتبار ندرتهم فى السوق. سفينة المصرى للنجاة، تضىء كشافاتها كل الدواعش الغائمة، من إسرائيل، إلى أنصار هرمجدون، ومن خشونة الشعراوى إلى نعومة الغنوشى إلى ملاك الوطنية الجدد فى صفوف العسكر. لكن المصرى أبحر بسفينته، وكتب على ظهرها كلماته، لتنير المرافئ فى رحلة العودة الحتمية.