التاريخ أخطر من أن يترك للسلطة السياسية الحاكمة فى مرحلة ما، كى تضع تقييماتها المعيارية وأحكامها الأخلاقية على تطور الأحداث والوقائع التاريخية الكبرى أو الصغرى، وتصدر أحكامها بإدانة بعض الزعماء والقيادات والأحزاب، أو ترفع من شأن آخرين، وتضفى عليهم من الصفات الإيجابية والمجازات المفرطة ما شاءت أهواؤها. إن نظرة على كتابة تاريخ مصر الحديث منذ الحملة الفرنسية إلى بناء دولة محمد على وإسماعيل باشا، ثم تطور مصر شبه الليبرالى، تشير إلى أنه كتب من خلال عديد من المقاربات، بعضها من وجهة نظر الأسرة العلوية، وبعضها الآخر من منظور تطور الحركة القومية المصرية ورؤية الحزب الوطنى على أيدى مؤرخه الكبير عبد الرحمن الرافعى. وكتب بعض الفرنسيين والبريطانيين تاريخ مصر من منظور المؤسستين الاستشراقية البريطانية والفرنسية بما تنطوى عليه من مضمرات وتحيزات وإسقاطات قيمية كامنة فى ما وراء خطاباتهم المنهجية والتاريخية. بعض الكتابات التاريخية اتسمت بالمقاربة السردية للوقائع والأحداث والأطراف، اعتمادا على بعض الوثائق الرسمية، أو الأجنبية أو على مصادر ثانوية كالصحف والمجلات. يلاحظ أيضا أن بعض المؤرخين اتسمت أعمالهم بالجدية أيا كان الرأى فى تفسيراتهم، ومنهم شفيق غربال وصبرى السربونى ومحمد فؤاد شكرى. ثمة كتابات أخرى عكست بعض التحيزات إزاء بعض الأحزاب السياسية كحزب الوفد، وقيادة مصطفى النحاس باشا، ومنها مواقف د.محمد عبد الرحيم مصطفى على سبيل المثال لا الحصر، وبعضها الآخر اتسم بالنزعة الليبرالية كما فى بعض كتابات عفاف لطفى السيد. إن غالب الكتابات التاريخية فى المرحلة شبه الليبرالية ركزت على التاريخ السياسى، لا الاجتماعى إلا قليلاً، وثمة معالجات قليلة للتاريخ الثقافى، ناهيك بغياب التاريخ الشفوى الذى ظهر على استحياء بعد ذلك فى عقد الثمانينيات من القرن الماضى. تاريخ الأقباط، نظر إليه من خلال تاريخ البطاركة والمؤسسة القبطية الأرثوذكسية، ومن ثم تناسى بعضهم حركة وفاعلية المصريين الأقباط فى التاريخ المصرى منذ دخول المسيحية مصر. تاريخ مبتسر، وبه فجوات ونقص فى عديد المواقع والوقائع والأحداث الكبرى والصغرى، وتأويلات محمولة على بعض الهوى والأخطر التاريخ الرسمى الذى يدرس لطلاب المدارس من الابتدائى إلى الثانوى، تاريخ غالبا من منظور السلطة الحاكمة، وبعض المؤرخين ويعكس تحيزاتهم السياسية أو الأيديولوجية، وينطوى فى بعض الأحيان على مبالغات وأحكام قيمة، هذه الملاحظات لا تعنى غياب عديد من الإيجابيات لدى مؤرخى هذه المرحلة. يمكن القول إن السرديات التاريخية حول تاريخ الحكم النيابى وتطور النظم الدستورية، وتطور الحركة القومية، اتسمت ببعض من الثراء فى المادة التاريخية التى تسمح بدراسات تاريخية تركيبية، ومقاربات منهجية مختلفة، على نحو ما فعل بعض المؤرخين المعاصرين مثل خالد فهمى واستعاراته من ميشيل فوكو وآخرين فى دراسة كل رجال الباشا، وأخرى حول الجسد، وعمله حول مستشفى الأمراض النفسية. أيا ما كان الاتفاق أو الاختلاف حول هذه المقاربة المنهجية فى عصر محمد على، إلا أن ذلك يثرى الحوار المنهجى والتفسيرى للتاريخ المصرى ويضيف إليه ولا ينقص منه شىء. بعد وصول الضباط الأحرار إلى السلطة فى 23 يوليو 1952 اتسع المجال واسعا أمام بروز بعض الكتابات الأيديولوجية المستمدة من النظرية الماركسية على أيدى إبراهيم عامر، وفوزى جرجس، وتاريخ رفعت السعيد للحركة الشيوعية المصرية. لا شك أن المدرسة الماركسية أنارت بعض الأبعاد الاجتماعية فى تقييماتها المعيارية، واهتمت بالجوانب الاجتماعية والطبقية التى أغفلها بعض المؤرخين فى المرحلة شبه الليبرالية. وتفرع عن الماركسية وتأويلاتها ما يطلق عليه مدرسة التاريخ الاجتماعى التى رادها محمد أنيس، وعبد العظيم رمضان، ورؤوف عباس، وعاصم الدسوقى، وعلى بركات، وآخرون، بعض كتاباتهم اتسم بالجدية والموضوعية ودقة المعالجة، والبعض الآخر اتسم ببعض المبالغات والتأويلات الأيديولوجية، والميل إلى الماركسية أو الناصرية. بعض المؤرخين الجدد ذوى المقاربات المختلفة تبدُّوا فى كتابات خالد فهمى، وشريف يونس، وأناروا عديدا من الإشكاليات والخلافات مع مدرسة التاريخ الاجتماعى. أيا ما كان الأمر فى مسألة الموضوعية والالتزام الأيديولوجى وما تثيره من سجالات عديدة، إلا أن أخطر التحيزات الأيديولوجية ومساسها بالموضوعية تمثلت فى الكتابات التاريخية المدرسية التى وضعت للتدريس للطلاب فى التعليم العام والأزهرى، والتى انطوت على تحيزات السلطة والنخبة الحاكمة وأهوائها فى تاريخ مصر، بل واختصار وابتسار تاريخنا بمختلف مراحله على بعض المراحل دون أخرى. تاريخ مصر ما قبل دخول الإسلام كان ولا يزال أقل مما يدرس للطلاب فى فرنسا وبريطانيا، من حيث العمق والدقة والتفصيل. هناك نسيان لتاريخ مصر القبطية، وعندما أشير إليه فى السنوات الأخيرة كان على نحو مبتسر ومحدود جدا وعابر! من الناصرية إلى الساداتية إلى حكم مبارك ومحمد مرسى، تم التلاعب السلطوى بالتاريخ لخدمة وتمجيد الحاكم، والسلطة معا. خذ على سبيل المثال ما كان يكتب عن هؤلاء وعن خصومهم من أمور لا علاقة لها بالتاريخ والسرد والتحليل الموضوعى، وإنما تفخيم مفرط، ولغو بلا حدود. فى حكم الرئيس الأسبق محمد مرسى تم تغيير كتب التاريخ على نحو بالغ الخطورة لدعم رؤية مؤرخى جماعة الإخوان المسلمين، وذلك بعد 25 يناير 2011 و30 يونيو 2013، وانظر إلى كيفية كتابة منهج التاريخ فى الثانوية العامة، والهوى السياسى الجامح فى الكتابة التاريخية عن أمور لا تزال موضعا للتجاذب السياسى، والانقسامات الحادة، وتضارب الرؤى والتقييمات الأيديولوجية. هل يعقل فى الدرس التاريخى ومفاهيمه أن يشارك بعض حلفاء سلطة 30 يونيو وبعض من السلفيين فى اللجنة التى شكّلتها وزارة التربية والتعليم لتعديل منهج التاريخ بالثانوية العامة؟! هل تخضع كتابة التاريخ المصرى فى المرحلة الراهنة لمواءمات التحالفات السياسية، ومواقف السلطة الجديدة فى مصر؟ هل هذا معقول؟ هل هذه هى كتابة التاريخ وفق المناهج العلمية وعلى أسس موضوعية؟ أم إننا إزاء استمرارية لأهواء سلطات تكتب تاريخنا على هواها الجامح؟