يعكس تأكيد الرئيس الأمريكى باراك أوباما مجددا، أول من أمس (الأربعاء)، أن قوات بلاده لن تخوض مهامّ قتالية برية ضد تنظيم الدولة الإسلامية فى العراق والشام (داعش) سواء فى العراق أو سوريا، محاولة متهافتة لتهدئة قلق مواطنيه الذى أعقب إعلان رئيس هيئة الأركان الأمريكية المشتركة الجنرال مارتن ديمبسى، الثلاثاء، أنه سيوصى بإرسال قوات أمريكية إلى العراق فى حال لم تحقق الضربات الجوية هدفها فى دحر «داعش». إلا أن مطالبة أوباما القوات العراقية ودول المنطقة بتحمل مسؤولية مواجهة «داعش» تؤكد الشكوك فى مدى كفاية استراتيجية الضربات الجوية لهزيمة التنظيم، بينما تكشف خطته لدعم القوات العراقية والمعارضة السورية المسماة «معتدلة» وتسليحهما عن قناعة القيادة الأمريكية بأن من ستحاول الاعتماد عليهم على الأرض لا يمتلكون بالفعل المقدرة على هزيمة «داعش». ما حاول أوباما وصفها ب«الاستراتيجية» لا تعدو -إذن- كونها قفزا بالمنطقة إلى المجهول فى معركة يبدو أن أوباما أو قادته لا يمتلكون بالفعل خطة واقعية للانتصار فيها، بل إن تلك «الاستراتيجية» الموهومة تحمل كذلك مخاطر حقيقية بمفاقمة الخطر الإرهابى والصراع الطائفى عبر المنطقة بأسرها. بداية، يبدو أن استراتيجية أوباما تقصُر كثيرا، من حيث هدفها المعلن وهو مجرد تقليص وجود «داعش» على الأرض، عن مجابهة تنظيمات إرهابية لا تقل خطرًا عن «داعش» سواء فى العراق أو سوريا، أو عبر المنطقة فى أكثر من بؤرة تعانى فراغا أمنيا وسلطويا كما فى السودان واليمن وليبيا والصومال وجزء كبير من منطقة الساحل والصحراء. ومن دون الاستغراق فى محاولة تحديد أسباب تجاهل «استراتيجية» أوباما المواجهة الشاملة لكل تلك المخاطر الإرهابية المترابطة عبر الإقليم، والتى بات استخدامها إحدى أدوات حروب بالوكالة تخوضها أطراف إقليمية ودولية عبر المنطقة لإضعاف عدد من دولها واستنزافها، فإنه فى ظل هذا الواقع الأمنى الهشّ فى الشرق الأوسط يرجّح أن استهداف «داعش» سيدفع عناصرها شديدى التطرف إلى الانتشار عبر الإقليم سواء بالانضمام إلى بعض تنظيمات المعارضة فى سوريا أو بالخروج إلى ملاذات هشّة أخرى فى دول المنطقة لن تشهد الضغط العسكرى ذاته. وبالتالى، فإن غياب أفق المواجهة الشاملة مع الإرهاب عبر الإقليم، وما وراءه، يهدد بمفاقمة مخاطره إقليميا. أما فى ما يتعلق بمخاطر مفاقمة الصراع الطائفى، فيبدو أن خطة الدعم والتسليح التى تتبناها إدارة أوباما وحلفائها الغربيين تطرح معضلات كبيرة فى كل من العراقوسوريا. ففى العراق، يبدو أن مجرد دعم قوات الجيش العراقى والقوات الكردية دون امتلاك خطة واضحة لإعادة بناء قوات الأمن العراقية وحل المعضلات السياسية فى بناء السلطة وتوزيع الموارد، إنما يكرس الانقسام والتناحر الطائفيين. فمن جهة، يهدد دخول الميليشيات الشيعية «المتطرفة»، التى تقاتل مع القوات العراقية ضد «داعش»، إلى المناطق السُّنية بمفاقمة الصراع الطائفى بين الطرفين وتغيير كثير من القبائل السُّنية التى يخوض نحو 25 منها معارك ضد «داعش» حاليا مواقفها والعودة إلى خانة الحرب الطائفية التى غذَّت وجود «داعش» ونشأتها وتهدد بتغذية أشباهها ما دامت استمرت عوامل الاحتقان والصراع. وتكشف البيانات التى أصدرتها ثلاث من الميليشيات الشيعية فى العراق هى «جيش المهدى» و«عصائب أهل الحق» و«كتائب حزب الله»، الإثنين الماضى، تهدد فيها باستهداف أى قوات أمريكية قد تدخل إلى العراق للقتال ضد «داعش»، عن سعى هذه الميليشيات إلى الدفاع عما تراه فرصة لتعزيز نفوذها فى البناء الأمنى العراقى وعلى الأرض. يبقى البديل المطروح أمام الولاياتالمتحدة، فى ظل غياب أى طرح حقيقى لإعادة بناء الجيش العراقى على أسس وطنية جامعة، هو تسليح القبائل السُّنية لمواجهة «داعش»، بما يعزز واقع الانفصال عن الدولة العراقية المأزومة، ويحقق خطة تقسيم العراق فيدراليًّا. من جهة أخرى، فإن دعم قوة البيشمركة الكردية يعزز نزعات الانفصال لدى قادة الإقليم، خصوصا فى ظل الاحتمالات الكبيرة لتجدد الصراع بينه وبين الحكومة العراقية حول مدينة كركوك بعد خفض خطر «داعش». أما فى سوريا، فإن خطة أوباما بتدريب نحو خمسة آلاف من عناصر المعارضة السورية المسماة «معتدلة» تفتقر بدورها إلى كثير من المعقولية فى افتراض أن هذه القوة المحدودة، حتى حال نجاح تدريبها بفاعلية فى أمد قصير، يمكنها حسم المعركة ضد «داعش» أو حتى النظام السورى. ويبدو أن هذه الخطوة، فى ظل خبرة عجز هذه المعارضة طوال سنوات عن حسم الصراع الدائر فى سوريا أو تمثيل كل أطياف المكونات الاجتماعية السورية، لا تستهدف سوى الحفاظ على وجود هذه المعارضة التى باتت الأكثر ضعفا على الأرض أملًا فى إيجاد بديل سنى يفرض سيطرته على شمال شرق سوريا ويتيح تقسيم البلاد طائفيا بعيدا عن «داعش». فى المقابل، يرجح أن يحظى النظام السورى بدعم متزايد من قبل حليفيه الرئيسيين روسيا وإيران لمجابهة أى مخاطر ميدانية قد تحدثها زيادة الدعم الأمريكى لمعارضيه، أو حتى احتمال التدخل جوًّا ضد قواته بأى حجة مثل التعرض للطائرات الأمريكية فوق الأجواء السورية، ولن تكون النتيجة النهائية سوى ازدياد حدة الصراع وإطالة أمده. الخطة الأمريكية المفككة وغير الواقعية لا يمكنها إذن حسم المخاطر الإرهابية عبر المنطقة، بل تهدد بمفاقمتها وتعزيز مخاطر تقسيم حقيقية تنطلق من العراقوسوريا. وفى الواقع فإنه من دون إدراك أن «داعش» وأشباهه فى المنطقة هم جميعا عَرَضٌ لأزمة تكامل قومى حادة تعانى منها بنية الدول العربية، فإن أى حرب، لا تستند إلى رؤية سياسية لحل تلك الأزمة، لا يمكنها حسم أىٍّ من هذه التهديدات والمخاطر.