فى نهاية الأربعينيات هتف عدد كبير من المطربين والمطربات فى نقابة الموسيقيين «أخى جاوز الظالمون المدى».. جاءت صباح بعد نور الهدى، ولم تنقذ الموقف سوى نقيبة الموسيقيين فى تلك السنوات أم كلثوم، التى رفضت الانصياع إلى رغبات الغاضبين ضد السماح لصباح بالغناء فى مصر، وكانت قد سبقتها بسنوات قليلة نور الهدى. أعادنى الحديث الذى ذكره مدحت صالح إلى الزميلة «اليوم السابع» وهو يطالب بأن لا يغنى المطرب العربى إلا بلهجة بلاده، إلى تلك النغمة النشاز التى تصورت أن الثورة وضعت حدا لها، فمن حق الفنان العربى أن يغنى لمصر ومن حق المصرى أن يغنى لتونس. ألم ير مدحت صالح فى ميدان التحرير كيف أن عددا من الخيام تشهد وجودا سوريا.. فالمطالبة برحيل بشار معلنة فى التحرير!! ما يريده مدحت، بأن يكتفى المطرب العربى بالغناء بلهجة بلده، يعنى أنه يحذف من الغناء المصرى على أقل تقدير 50% مما احتفظت به المكتبة الغنائية، لأن الفنان العربى عندما يأتى إلى مصر يفضل أن يغنى بالمصرية كلمات وأنغاما، وهو فى العادة لا يلقى من أهل بلده عنتا، لأن العرب توافقوا على اللهجة المصرية. لماذا يحتج إذن مدحت صالح؟ إنه الإحساس الذى يعيشه البعض عندما يعتقد أن مساحة وجوده تتأثر سلبا بمزاحمة الآخرين، وأن جحا أولى بلحم «توره»، والحقيقة أنها نظرة قاصرة تجد لها تنويعات فى حياتنا الثقافية والدرامية عندما يعلو الصوت بين الحين والآخر بتلك المقولة، بل إننى أتذكر بعد ثورة 25 يناير مباشرة، صعد عدد من المخرجين والممثلين إلى اللواء طارق المهدى الذى كان مسؤولا عن تسيير الأعمال فى «ماسبيرو»، يريدون إبعاد كل ما هو غير مصرى عن الدراما من أجل إفساح المجال لهم، وأشهروا سلاح «جحا والتور»، وبالفعل تم استبعاد عدد من المخرجين العرب والنجوم مثل محمد عزيزية وتيم حسن وسولاف فواخرجى وجمال سليمان، وكان موقفا يدل على قِصر النظر السياسى وأيضا الاقتصادى، وكأن الثورة أُقيمت للإطاحة بالعرب لا الفساد!! هل من الممكن أن نخصم من أغانينا كل ما قدمه باللهجة المصرية أسمهان وفريد ونجاح سلام وسعاد محمد وصباح وفايزة ووردة مرورا بسميرة ولطيفة ووصولا إلى أصالة ونانسى وإليسا وحسين الجسمى وجنات؟ إنها تبدو حالة من الغضب المعصوب العينين. عندما تستمع إلى نجاح سلام وهى تغنى «يا أغلى اسم فى الوجود يا مصر» أو وديع الصافى وهو يردد «عظيمة يا مصر» أو نانسى «أنا مصرى وأبويا مصرى وخفة دمى مصرى» أو الجسمى «عينى على أهل كايرو» وغيرها وغيرها.. ألم تستشعر صدق إحساسهم بحب مصر؟! غنت سعاد محمد «وحشتنى» وغناها بعد ذلك مدحت صالح وخالد عجاج، ورغم ذلك روح الأداء والطعم المصرى تستطيع أن تراه وتشعر به أكثر مع صوت سعاد محمد. تجربة فيروز فى التغنى بكل ما هو لبنانى جديرة -بالطبع- بالاحترام، وهى تشكل بالتأكيد تفردا على كل المستويات، حيث إن فيروز مع الأخوين رحبانى (عاصى ومنصور) كانت تُقدم حالة خاصة، وراءها مذاق متكامل من الفن اللبنانى، ورغم ذلك كان لفيروز والرحبانية أيضا ملمح مصرى من خلال إعادة الرحبانية عددا من الأغنيات القديمة لسيد درويش ومحمد عبد الوهاب مثل «طلعت يا محلى نورها» و«خايف أقول اللى فى قلبى». عدد من المطربين والمطربات المصريين يسجلون أغنيات باللهجة والألحان الخليجية، وبالطبع فإن المقصود من هذه الأغنيات هو الربح المادى، فهم يقدمون هذه الأغنيات لتحقيق أرباح مادية، وفى العادة لا تنتشر هذه الأغنيات خارج الحدود الخليجية، ورغم ذلك فلم يعترض أحد من الفنانين العرب رغم أن الهدف واضح جدا فى تحقيق المكاسب المادية، بينما المطرب العربى الذى يغنى باللهجة والألحان المصرية يصبح الهدف الأسمى بالنسبة إليه هو تحقيق الانتشار على الساحتين المصرية والعربية. حقيقة لم استوعب سر غضب مدحت صالح حتى لو كان الخوف من المزاحمة، فأنا أرى أن ثورات الربيع كسرت تماما هذا الإحساس، وأدعوه إلى الذهاب إلى خيمة الثورة السورية فى ميدان التحرير.. الثورات العربية تتكلم مصرى!!