أخيرًا تحركت أمريكا لمواجهة جماعة «داعش» الإرهابية. قدمت بعض المساعدات المخابراتية وقامت ببعض الضربات الجوية لوقف تقدم «داعش» فى العراق، وها هى تقود حلفاءها فى حلف «الناتو» للوقوف فى وجه الخطر، وتعلن عزمها على تشكيل أوسع تحالف دولى للتصدى لهذا لتنظيم الإرهابى والقضاء عليه. لم تتحرك أمريكا قبل ذلك و«داعش» تثبت أقدامها فى سوريا وتسيطر على مناطق البترول، وتقضى على المعارضة المدنية التى تحملت عبء الثورة فى أيامها الأولى. ولم تتحرك أمريكا و«داعش» تستولى خلال أسابيع على ثلث العراق وتعلن قيام «خلافتها» المزعومة!! ولم تتحرك أمريكا و«داعش» تقيم المذابح لعرب العراق من كل المذاهب والأديان، وتقوم بأبشع عملية تطهير عرقى ضد مسيحيى العراق لإجبارهم على الفرار من وطنهم، أو دفع الجزية، أو تحويل الرجال إلى عبيد، والنساء إلى جوارٍ أو سبايا!! تحركت أمريكا فقط عندما اكتشفت متأخرًا -كالعادة- أن السحر انقلب على الساحر، وأن مصالحها أصبحت فى خطر، وتحركت، ومعها أوروبا، بعد أن امتدت سيوف «داعش» لتقطع رؤوس رعايا هذه الدول، وبعد أن أصبح واضحًا أن درس «القاعدة» يتكرر بصورة أبشع، وأن من نشؤوا تحت رعاية أجهزة المخابرات الأجنبية قد تمردوا، وأن الخطر أصبح يطرق أبواب أمريكا وأوروبا مع وجود الآلاف من رعاياها فى صفوف «داعش» يستعدون للعودة إلى «بلادهم» مع إرهاب تعلموه وتدربوا عليه، وسكتت عنه بلادهم حين كان الدم العربى وحده هو الذى يراق!! المهم الآن أن أمريكا وحلفاءها الأوروبيين يعلنون المواجهة الشاملة ضد «داعش» والعزم على القضاء عليها. ولكن الرئيس الأمريكى وأركان إدارته يشددون على أن هذه المواجهة لا تشمل أى وجود عسكرى أمريكى (أو أوروبى) على الأرض. وأنها ستركز على وقف تدفق المقاتلين الأجانب للانضمام إلى جماعة «داعش»، والتعاون فى جمع المعلومات، والتحرك لتجفيف منابع التمويل ومعالجة الأزمات الإنسانية، ومنع «داعش» من الاستيلاء على أراض فى العراق، وتقديم كل المساعدات للقوات العراقية للتصدى لهذا التنظيم الإرهابى. ووفقًا لهذا التصور يقول الرئيس الأمريكى أوباما إن المعركة ستكون طويلة الأمد!! ويجرى التركيز على العراق (حيث المصالح الأمريكية) بينما على سوريا أن تنتظر، لأن أمريكا لم تجد بعد حلفاء لها على الأرض!! رغم أن سوريا هى القاعدة الأساسية لهذه الجماعة الإرهابية وفيها مصدر تمويلها ومعظم أعضائها!! ووفقًا لهذا التصور فإن المهمة العاجلة هى محاصرة «داعش» حتى لا يمتد نشاطه كخطوة أولى لضربه والقضاء عليه. وطبيعى أن يكون اهتمام أمريكا وأوروبا بتحصين نفسها من هذا الوباء.. ولكن ماذا عن الدول العربية وهى المستهدَفة أساسًا من «داعش»؟! وماذا عن بقاء الوضع المأساوى فى سوريا لحين عثور أمريكا على حليف لها على الأرض؟! وماذا -وهذا هو الأهم- عن باقى «الدواعش» من جماعات الإرهاب التى تعيث فسادًا فى باقى الأرض العربية؟! لقد كان لافتًا أن تعلن واشنطن أخيرًا عن تسليم طائرات «الأباتشى» التى سبق لها أن عطلت تسليمها لمصر فى أعقاب 30 يونيو، وفى وقت كانت مصر فى أشد الحاجة إليها لكى تواجه العصابات الإرهابية فى سيناء وغيرها. وبغض النظر عن أن هذه الخطوة الأمريكية قد جاءت فى أعقاب زيارة الرئيس السيسى لموسكو، فإن المهم أن هذا الإعلان عن التسليم المتأخر لطائرات «الأباتشى» ترافَق مع تأكيد واشنطن دعم جهود مصر فى محاربة الإرهاب.. والسؤال هنا: هل تراجعت واشنطون فعليا ونهائيا عن موقفها الذى تعاملت به منذ 30 يونيو، والذى كان يصف كل ما يحدث من جرائم بشعة من إخوان الإرهاب وحلفائهم فى سيناء وباقى أنحاء مصر على أنها مجرد «أعمال عدائية» أو «أعمال تتصف بالعنف» وليست إرهابًا لا يقل عن إرهاب «داعش» إلا فى أنه لم يخدش حياء المصالح الأمريكية.. بل بقى فى خدمتها معتمدًا على مساندتها؟! كنت أتصور أن أمريكا قد استوعبت الدرس، وأدركت أن الإرهاب لا يعرف دينًا ولا يحترم وطنًا ولا يؤمن بإنسانية، لكن البيان الذى صدر قبل أيام من أمريكا وحلفائها الرئيسيين فى أوروبا (بريطانيا وألمانيا وفرنسا وإيطاليا)، والذى يحذر من التدخل الخارجى فى شؤون ليبيا، ويطلب من مجلس الأمن أن يتخذ الإجراءات المناسبة ضد أى محاولة لمنع الميليشيات الإرهابية من تحويل ليبيا إلى قاعدة آمنة لجماعة الإرهاب.. هذا البيان يثير التساؤل من جديد حول حقيقة الموقف الأمريكى.. فلا فرق بين «داعش» وأخواتها فى الإرهاب، إلا فى أن «داعش» قد تجاوزت الخطوط الحمراء وهددت مصالح أمريكا وحلفائها، بينما «الدواعش» الآخرون يكتفون بتهديد أمن مصر وتدمير ما يستطيعون تدميره فى العالم العربى. وهو فارق -لو تعلمون- عظيم!!