أشرتُ فى مقال الجمعة الماضية إلى أن تنظيم «الدولة الإسلامية فى الشام والعراق» (داعش) يلعب دورًا مهما فى ترسيخ بيئة تتيح تأسيس معازل طائفية متناحرة فى المنطقة، وأوضحت أن ذلك يصب فى مصلحة الولاياتالمتحدة فى منع امتداد نفوذ أى طرف إقليمى، خصوصا إيران، عبر منطقة العراق وبلاد الشام الاستراتيجية بالنسبة إلى أمن أطراف رئيسية عدة فى الشرق الأوسط، وبالنسبة كذلك إلى عديد من مشاريع تأسيس محاور للتوسع الاقتصادى التى يتبناها عدد من الدول الصاعدة فى الإقليم، بل ومن حوله بما فى ذلك منافسون مهمّون للولايات المتحدة، خصوصا الصين وروسيا. بعبارة أخرى، يتيح تقسيم المنطقة وتفتيتها طائفيا الحد من فرص الهيمنة عليها من قبل أى قوة أخرى، فى ظل سعى أمريكى لتقليل انخراطها فيها. فى يوم الجمعة ذاته، نشر نائب الرئيس الأمريكى جو بايدن مقالا فى صحيفة «واشنطن بوست»، أعاد فيه صياغة اقتراح لتقسيم العراق سبق أن تبناه إبّان كان عضوًا فى مجلس الشيوخ الأمريكى عام 2006، حيث دعا إلى إنشاء ثلاثة أقاليم سُنّية وشيعية وكردية تتمتع بالحكم الذاتى فى إطار دولة فيدرالية. وزيَّن بايدن التقسيم بأنه سيحدّ من الصراعات الطائفية، ويضمن توزيعا «متساويا» للإيرادات بين المحافظاتالعراقية، وأخيرًا بأنه سيتيح تأسيس قوات محلية لحماية سكان كل إقليم بعدما انتقد ما انتهى إليه الجيش العراقى من طائفية وعجز. جديد مقال بايدن أن هذا الطرح لم يعد مقترحا شخصيا له، بل سياسة تدعمها بلاده وتعمل على تحقيقها بالتعاون مع العراقيين ومع أطراف إقليمية أخرى. وبالنظر إلى أن الإدارة الأمريكية لا تزال تشترط تحالفا إقليميا لشن أى حملة واسعة ضد مواقع «داعش» فى سوريا التى تعد حدودها مع تركيا الحبل السرى لإمداد التنظيم بالتمويل والمقاتلين، فيبدو أن هذه الإدارة تضع المنطقة أمام أحد خيارين: إما مواجهة احتمال تمدد «داعش» ليس فقط إقليميا، ولكن الأخطر فكريا ومفاهيميا، وإما القبول بطرح التقسيم الطائفى للدول وتحقيق تصور المعازل الطائفية عبر سبيل آخر هو الانتقال من مخاطر تفكك الدول أمام طوفان الصراعات الطائفية إلى استراتيجية فعلية لإعادة ترسيم حدودها على الأسس الطائفية ذاتها تجنبًا لمخاطر الصراع. لكن لماذا نفترض أن المدخل الفيدرالى فى العراق سيكون مدخلا لتقسيم المنطقة طائفيا؟ لا يعكس مشروع الفيدرالية الأمريكى هذا بأى حال نموذج «الفيدرالية الفاعلة» الذى وصفه به يايدن. تعنى «الفيدرالية الفاعلة» توافقا بين جماعات أو كيانات سياسية متباينة، إما فى انتماءاتها الإثنية أو ظروفها التنموية بشأن الانتقال نحو مسار سياسى تكاملى يسمح لها بصنع قرارات مشتركة تحقق لها مصالح جماعية بقدر ما تحفظ حدًّا أدنى من استقلالية الحكم لازمة لفاعليته. وفى هذا الإطار، فإن السياستين الدفاعية والخارجية تكونان بالكامل من اختصاصات الحكومة الفيدرالية، إضافة إلى نصيب متزايد من القرارات التى تشمل مجالات السياسة العامة الأخرى بقدر نجاح الدولة الفيدرالية وفاعليتها. وغنىٌّ عن البيان أن الواقع العراقى منذ عام 2003 يشهد مسارًا تفككيا صراعيا معاكسا تماما لما سلف توضيحه، ومن شأن أى مشروع للفيدرالية يؤسس على هذا الواقع تكريس الانفصال والتناحر لا تحقيق التكامل. ولعل قبول السُّنة بالطرح الفيدرالى/ الطائفى الآن خلافًا لما كان عليه الحال عام 2005 إنما يعكس تزايد التشدد الطائفى بين مختلف المكونات العراقية. يعزز من هذا الاحتمال حقيقة أن مشروع بايدن ذاته ينطلق من نزع اختصاص الدفاع من الحكومة الفيدرالية، أو إضعافه، من خلال الدعوة إلى إنشاء قوات محلية تتولى الدفاع عن كل من الأقاليم الثلاثة. وإلى ذلك، فإن اقتسام موارد العراق بين تلك الأقاليم لن يكون أمرًا سهلا، بل المرجح أن يكون مدعاة لمزيد من الصراع بالنظر إلى تركز الموارد النفطية فى المناطق ذات الأغلبية الشيعية والكردية، خصوصا بعدما سارع الأكراد للسيطرة على كركوك الغنية بالنفط فور اندحار القوات العراقية أمام «داعش». وكان هذا العامل بالفعل أحد أسباب معارضة السنة للطرح الفيدرالى الذى تم إقراره فى دستور البلاد عام 2005. كما يعزز الطرح الفيدرالى من احتمال زيادة انكشاف هذه الدويلات الطائفية وسياساتها أمام تأثير القوى الإقليمية والدولية المتنافسة عبر الإقليم، مما يرجح استمرار هذه الدويلات ساحة لصراعات إقليمية ودولية بالوكالة. ويبقى أخيرًا التساؤل حول مدى إمكانية أن يفضى طرح بايدن إلى مشهد تطهير إثنىّ سيكون شديد القتامة والخطورة بالنسبة إلى مستقبل المنطقة بأسرها من خلال إعادة توزيع السكان فى ما بين الأقاليم الثلاثة فى ظل مباركة دولية وإقليمية. وتتجاوز خطورة الطرح الفيدرالى حدود العراق لتشمل المنطقة بأسرها، حيث يهدر هذه الطرح أهمية المقوم القومى العربى الجامع لشيعة العراق وسُنته لمصلحة تكريس انقسامهم المذهبى. وحيث يتكرر مشهد الانقسام، بل والتناحر المذهبى فى أكثر من بلد عربى آخر، فإنه من المرجح أن نشهد تكرار هذا الطرح الفيدرالى/ الطائفى فى تلك البلدان حال تراجع صلابة نظام الحكم القائم فيها أو تراجع أهميتها على سلم المصالح الأمريكية فى المنطقة، وهو أمر يُتوقَّع تزايده فى الأمد المتوسط. وبالتالى فإننا نظن أن طرح بايدن الفيدرالى يؤسس بالفعل لإعادة ترسيم حدود ليس فقط منطقة الشام والعراق، بل وفى ما وراء ذلك، على أسس طائفية مدمرة. ومع الإقرار بأن الانتصار لهذا الطرح يعكس سعيا أمريكيا لإهدار أى محاولة لبناء ديمقراطية مواطنة حقيقية فى دول المنطقة، فإن السؤال المهم الذى يثور الآن: هل يقبل العرب بتكريس المنطق الطائفى أم يحاولون الالتحاق بديمقراطية حقيقية تمثل سبيلهم الوحيد للبقاء؟