قبل أن يطلق أحدهم السهام علىَّ متهما إيَّاى بالكفر أو توجيه الاتهام إلىَّ بالتشجيع على الإلحاد، وهذا اتهام ساذج، لأن الملحدين لا يريدون الجنة، لأنهم لا يعترفون بوجودها، فعلى هؤلاء المهاجمين أن يعرفوا أن فى خندقى يقف الجاحظ والعنبرى من أئمة المعتزلة، وكذلك عبد المتعال الصعيدى والإمام الأكبر الشيخ شلتوت، وكذلك محمد عبده وأبو حامد الغزالى، وغيرهم، وربما قصد ذلك أيضا فهمى هويدى فى كتابه «السلطان والقرآن»، وأنا هنا أظنّ أننى أدافع عن الإسلام الذى أراه دين التسامح وحرية الرأى وحرية الفكر وحرية الاعتقاد، وأنزع فتيل الدماء الذى يريده المتشددون والراديكاليون، بعد أن كانوا أحد أسباب تحول الإلحاد فى مصر إلى ظاهرة، ولم أكن أنتظر رأى المعممين أو رأى المعتزلة، حتى أصل إلى تلك القناعة، فقناعتى -برحمة الله ومغفرته- ثابتة وراسخة، خصوصا إذا كان الشخص له عذره، فى وصول صور سلبية لمن يتحدثون باسم الدين، بل وتصميمهم على أمور لا تقبلها الفطرة السليمة، مثل قتال الناس بلا سبب، إلا لأنهم لا يرون ما يعتقدونه صحيحا ومطلقا، ويدَّعون أن تلك أوامر إلهية، لقتال الناس لاختلاف معتقداتهم عن معتقدات هؤلاء القتلة. وأنا على ثقة بأن القرَّاء من أتباع العقل يكفيهم الإثبات العقلى والفطرى والقلبى لهذه الأمور، ولا يشغلهم استدعاء العمائم فى تلك القضية، لكن ما زال هناك عبَّاد للنقل، ويريدون رأى العمائم، ولا يعجبهم هرتلة حاسرى الرؤوس من أمثالى، فلا بأس من مخاطبة هؤلاء وهؤلاء. يقول عبد المتعال الصعيدى فى كتابه «حرية الفكر فى الإسلام» إن الذى اجتهد بالكفر لا يعذر فى رأى الجمهور، لكن الفريق الآخر -وعلى رأسه الجاحظ والعنبرى- يرى أنه لا إثم على مجتهد مطلقا، وإنما الإثم على المعاند فقط، فالمجتهد المخطئ عند هذا الفريق غير آثم، ولو أدَّاه اجتهاده إلى الكفر الصريح، لأنه تكليف بما لا يطاق، والآية تقول: «لا يُكلف الله نفسا إلا وُسعها»، وتبنَّى الصعيدى هذا الأمر فى النهاية ودافع عنه، وقال إن الشيخ محمود شلتوت فى كتابه «الإسلام عقيدة وشريعة» ذهب إلى رأى هذا الفريق (يقصد المعتزلة)، وذكر أن مَن لم يؤمن بالله ولا برسله ولا بنحو ذلك لا تجرى عليه أحكام المسلمين فى ما بينهم وبين الله، وفى ما بينهم وبين بعضهم، وليس معنى هذا أن مَن لم يؤمن بشىء من ذلك يكون كافرا عند الله يخلد فى النار، أما الحكم بكفره عند الله فهو يتوقف على أن يكون إنكاره لتلك العقائد أو لشىء منها بعد أن بلغته الدعوة على وجهها الصحيح، واقتنع بها فى ما بينه وبين نفسه، لكنه أبى أن يعتنقها ويشهد بها عنادا واستكبارا، أو طمعا فى مال زائل أو جاه زائف، أو خوفا من لوم فاسد، فإذا لم تبلغه تلك العقائد، أو بلغته بصورة منفّرة، أو صورة صحيحة ولم يكن من أهل النظر، أو كان من أهل النظر لكن لم يوفق إليها، وظل ينظر ويفكِّر طلبا للحق حتى أدركه الموت فى أثناء نظره، فإنه لا يكون كافرا يستحق الخلود فى النار. ومن هنا كانت الشعوب النائية التى لم تصل إليها عقيدة الإسلام، أو وصلت إليها بصورة سيئة منفرة، أو لم يفقهوا حجته مع اجتهادهم فى بحثها بمنجاة من العقاب الأخروى للكافرين، ولا يطلق عليهم اسم الكفر. والشرك الذى جاء فى القرآن أن الله لا يغفره هو الشرك الناشئ عن العناد والاستكبار، الذى قال الله فى أصحابه: «وجحدوا بها واستيقتنها أنفسهم ظلما وعلوا» (النمل: 49)، وهذا صريح فى اختيار الشيخ شلتوت لمذهب هذا الفريق، ما زال الكلام للصعيدى. وقد رتَّب شلتوت بناءً على ما سبق، على أنه مَن كان مِن الكفار من أهل النظر وظل ينظر ويفكر طلبا للحق حتى أدركه الموت فى أثناء نظره، فإنه لا يكون كافرا يستحق الخلود فى النار عند الله وهو الكافر غير المعاند، وهو من نظر واجتهد فأدَّاه اجتهاده فى حياته إلى الكفر الصريح. كنت أحدِّث أحد أصدقائى فى تلك القضية، ولم أكن ألحظ أن ابنى ابن الحادية عشرة من العمر ينصت لحديثنا، فقال لى بلغة جيله «وِسْعِت منك دى يا بابا، طيب المسيحيين هيدخلوا الجنة، وقلنا ماشى، هما على الأقل، يطمعون فى دخول الجنة، أما الملحدون فلا يريدون الجنة التى تتحدَّث عنها، ولا يعتقدون فى وجودها، هتدخلهم الجنة بالعافية؟!». نحن فى مرحلة حرجة من الانهزام الحضارى والحضارة الغربية بعولمتها، ووسائل الاتصال السريعة تضغط علينا بقوة ونحاول أن ندافع، لكن المعرقلين يريدون إعاقتنا وتكفيرنا، لكننا مستمرون، وإن ظل المتكلسون والمتشددون على آرائهم، فنحن مُقدِمون إلى الهاوية، ولذلك فطرحى لهذه القضية ليس ترفا فكريا، ليس وقته، لكننى أرى «تسونامى» فكريا قادما، سيطيح بنا إن لم نستعد له، فالحوار هو الحل، والتراث يحتاج إلى تنقيح. وللحديث بقية إن شاء الله.