إسرائيل تحركت 50 سنة فى الخفاء حتى انفصل الجنوب بعد خراب مالطة يقوم وزير الخارجية فى الحكومة المصرية المبجلة بزيارة إلى بعض دول حوض النيل، وقد سبقت الزيارة تصريحات عن أهميتها، لأنها تتم لأول مرة بهذا المستوى الرفيع لست دول مجتمعة فى هذه الجولة، وكالمعتاد اكتظت التصريحات الرسمية بأن الزيارة تهدف إلى بحث تطوير العلاقات الثنائية مع هذه الدول على جميع الأصعدة السياسية والاقتصادية فى إطار علاقات التآخى والتكامل، ومن المهم أن يعرف القاصى والدانى، وطبقا لما أعلن عنه أن مصر ستشارك فى المناقصات الدولية التى تقيمها هذه الدول لمشروعاتها. وللأمانة فلا ذنب للحكومة الحالية أو مسؤولية -رغم تهافت خطابها- عن هذا الواقع المزرى والأليم لعلاقتنا مع دول حوض النيل التى أسقطناها من حساباتنا منذ عهد الرئيس الراحل محمد أنور السادات كبير العائلة، الذى بدأ عهد الإهمال الاستراتيجى لنطاق مصالحنا مع إفريقيا عامة ودول حوض النيل خاصة، وعلى دربه سار خليفته لمدة ثلاثين عاما، بينما كانت إسرائيل تعبث بقوة فى المجال الاستراتيجى القريب للجنوب المصرى ودول الشمال الإفريقى، فى إطار خطة ممنهجة معدة ومرتب لها بدقة فى الوقت الذى ينشغل فيه الشارع السياسى المصرى وراء ترهات يثيرها تيار الإسلام السياسى حول طبيعة الملابس التى يجب أن يرتديها السياح الذين يأتون إلى مصر لضخ مليارات الدولارات للدخل القومى المصرى، إذ سيقوم رئيس الوزراء الإسرائيلى بعد أيام وفى مطلع شهر فبراير المقبل، أى خلال فترة وجيزة، بزيارة إلى دول جنوب السودان وأوغندا وكينيا وإثيوبيا، وجنوب السودان أحدث دولة إفريقية بعد انفصالها عن السودان نتيجة التقصير والأخطاء والخطايا من حكومة السودان أولا، ومن الدول العربية، وعلى رأسها مصر التى أدارت ظهرها لكل ما يقع جغرافيا جنوب خط عرض 22 عقب انتهاء الحقبة الناصرية فى الحكم، لهذا كانت الزيارة الحالية لوزير الخارجية المصرى محمد عمر رد فعل استباقى للزيارة الرفيعة المستوى فعلا ومضمونا، لا شكلا كما تفعل مصر فى سياسات رد الفعل السريعة، بينما الآخرون يخططون عميقا على المدى البعيد. علينا أن ننتبه إلى أن الزيارة المزمعة لنتنياهو قد سبقتها خلال شهر ديسمبر الماضى زيارة من رئيس دولة جنوب السودان إلى إسرائيل، وتم البوح صراحة عن عمق التعاون بين الطرفين منذ بداية ستينيات القرن الماضى، وهو التعاون الذى كان الجنوبيون ينكرونه عند التطرق إلى هذا الموضوع فى المباحثات التى كانت تجرى بين أطراف الأزمة فى الجنوب والشمال قبل الانفصال، ومن الدال للغاية فى كلمة رئيس جنوب السودان أنه توجه بالحديث فى أثنائها إلى الرئيس الإسرائيلى شيمون بيريز قائلا: من دونكم ما كنا موجودين الآن.. وهكذا ما كان يعتبر وهما وخيالا منذ 50 عاما أصبح حقيقة على أرض الواقع الآن، وعلى مدى هذه السنوات الطويلة كنا ننتقل من تجاهل للأزمة وتقاعس عن حلها إلى آخر، ومن غفلة فى أحيان كثيرة إلى غفلة أخرى، بينما كان الإسرائيليون يعمقون الحفر كى ننكفء على وجوهنا فى هوة عميقة حتى بعد التصديق على اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل. «إن أول اتصال بين إسرائيل والسودان كان فى ستينيات القرن الماضى، عندما التقينا فى باريس رئيس الوزراء ليفى أشكول وأنا كنت وقتها نائب وزير الدفاع، مع قادة محليين من جنوب السودان وقدمنا لكم مساعدات واسعة فى قطاعى الزراعة والبنية التحتية» بكل الوضوح عبر الرئيس الإسرائيلى فى هذه العبارة لا عن التعاون الممتد منذ نصف قرن من الزمان، ولكن عن الرغبة الأكيدة لدى الإسرائيليين فى تفتيت الدولة التى تمثل عمقا استراتيجيا لمصر، وأن الأمر تم بتخطيط ونَفَس طويل، ووصل تنفيذ هذا المخطط فى بعض الأحيان إلى حد وجود خبراء عسكريين إسرائيليين لا من أجل التدريب فقط، ولكن لقيادة القوات الجنوبية فى المعارك على الأرض، ونظرا إلى أن المخطط الإسرائيلى لم يكن يقتصر على جنوب السودان فقط، فقد أتت فى خطاب الرئيس الإسرائيلى احتفاءً برئيس جنوب السودان عبارة عميقة المغزى جاء فيها «إن ولادة هذه الدولة تشكل انطلاقة فى تاريخ الشرق الأوسط». وهذا يعنى أن العرب يحتاجون إلى مزيد من اليقظة تجاه مشاريع التخريب والتفتيت لدول العالم العربى، وإلى تحالفات تل أبيب المتجددة فى الإقليم لترتيب أوضاع جديدة تؤثر على مقدرات الدول المحيطة، لا سيما دول الطوق وعلى رأسها مصر، ولكى تضمن إسرائيل -التى لا تتمتع بحيز جغرافى مناسب- سلامة الممرات البحرية والجوية حولها، وفى إطار المخططات الإسرائيلية تأتى الزيارة التى سيقوم بها رئيس الوزراء الإسرائيلى لدول القرن الإفريقى. وهنا علينا أن ننتبه جيدا إلى أن هذه الزيارة كانت مسبوقة بجولة قام بها أفيجدور ليبرمان وزير الخارجية الإسرائيلى، الذى يتصف بعداء مسموم وعنصرى ضد كل ما هو عربى ومسلم فى المنطقة، وكانت هذه الزيارة الشاملة لإفريقيا، فى سبتمبر 2009. وهنا علينا أن لا ننسى أن أول زيارة لهذه المنطقة الحساسة للأمن القومى المصرى كانت فى أعقاب العدوان الثلاثى على مصر، وبالتحديد فى 1958 وقامت بها وزيرة الخارجية الإسرائيلية جولدا مائير، التى أصبحت رئيسة للوزراء فى ما بعد. طبقا لما أوردته صحيفة «معاريف» الإسرائيلية فإن هدف زيارة نتنياهو هو بلورة تحالف جديد بين إسرائيل وعدد من الدول المسيحية بهدف تكوين حزام يواجه التيارات المتصاعدة للإسلام فى دول شمال إفريقيا، بادعاء أن التغيرات التى تسود شمال القارة سيمتد تأثيرها إلى باقى دول القارة. وهنا علينا أن نلاحظ استخدام مفردات ومصطلحات مثل «الدول المسيحية- التيارات المتصاعدة للإسلام- تكوين حزام» وهى مفردات ومصطلحات تعكس رغبة إسرائيل فى تأجيج صراع دينى وطائفى بين دول شمال إفريقيا العربية المسلمة، والدول التى تقع فى جنوبها المسيحية الزنجية، وأنها تعمل على عزل دول الشمال الإفريقى عن محيطها الجغرافى اقتصاديا وسياسيا وثقافيا لهذا لم يكن غريبا أن تقوم إسرائيل بعملية مصالحة تاريخية أنهت بها عداء طويلا امتد لأكثر عشرين عاما وصل فى بعض الأحيان إلى حد المناوشات المسلحة بين كل من كينيا وأوغندا، وهى المصالحات التى فشلت فيها من قبل منظمة الوحدة الإفريقية، ولم تسع إلى تحقيقها مصر ولها مصالح استراتيجية قصوى فى كلتا البلدين، كإحدى دول المنبع لنهر النيل، واستطاعت إسرائيل إحضار الرئيس الأوغندى يورى موسيفينى، والرئيس الكينى إيلا أودينجا إلى القدس محدثة بهذا الإنجاز اختراقا دبلوماسيا كاملا لكلتا البلدين، وقد أشارت الصحف الإسرائيلية عن مصادر خارجية إلى أن الأشهر الأخيرة شهدت نشاطا دبلوماسيا محموما يتوَّج بالزيارة المتوقعة فى شهر فبراير المقبل لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو. قراءة هذا المشهد الخطير لا يجب أن تتوقف عند حدود رصد وقائعه ولكنها يجب أن ترقى إلى تحليل عناصره ليس من أجل الفهم فقط، ولكن لكى يتمكن متخذ القرار فى مصر -حينما يوجد- الأدوات المناسبة التى تساعده على مواجهة هذا المخطط الجهنمى ويمكن الوقوف على هذا التحليل فى الآتى: أولا- تسعى إسرائيل من خلال التغلغل فى دول حوض النيل، لا سيما دول المنبع المهمة منها إلى استخدام ملف المياه كأداة تهديد تساوم أو تضغط بها على مصر، وتشتت قدراتها فى قضايا وجودية بعيدا عن الصراع العربى-الإسرائيلى من ناحية، ودوام إنهاك مصر وإضعافها من ناحية أخرى. ثانيا- تقوية الدور الكينى والإثيوبى فى استمرار انهيار الدولة فى الصومال، تحاشيا لأن يصبح الصومال القوى المتحد فى المستقبل عنصر تهديد لخط المرور البحرى إلى إيلات، وتقوم إسرائيل فعليا الآن بتسليح وتدريب الجيش الكينى بزعم محاربة الإرهاب واستغلال المشكلات المزمنة بين الصومال مع كل من كينيا وإثيوبيا فى نزاع تاريخى على إقليمى النفر وأوجادين المقتطعين بواسطة الاستعمار لصالح كينيا وإثيوبيا، فى محاولة جديدة لمزيد من التفتيت لهذه الدولة البائسة. ثالثا- استغلال العلاقة التاريخية مع جنوب السودان فى إقامة قاعدة عسكرية ومركز رئيسى للتخابر والتجسس وهذا يساعد على توفير الدعم اللوجيستى لتنفيذ عمليات ضد كل ما يمكن اعتباره من وجهة النظر الإسرائيلية ضارا بمصالحها، ومثال لهذا، على سبيل المثال لا الحصر، ضرب مجموعة من السيارات السودانية على الحدود مع مصر، منذ نحو ثلاثة أسابيع، وإعلان إسرائيل أنها لن تكون العملية الأخيرة، وأن طائراتها سوف تقوم بقصف وتدمير كل ما ترى أنه يهدد أمنها القومى. رابعا- وضع حد للتسلل الإيرانى فى المنطقة وفى إفريقيا عموما، لمقاومة مصالح ونفوذ إيران، التى تقوم باستثمار مبالغ مالية ضخمة تساعدها على التغلغل الاقتصادى، وبالتالى التغلغل السياسى، مما يحد من مخططات إسرائيل وتحجيم الدور الإيرانى فى المنطقة هو جزء من آليات الصراع مع طهران. خامسا- دائما ما يكون التعاون الأمنى مدخلا للتعاون العسكرى، وجزء رئيسى منه تصدير السلاح، ودول منطقة شرق إفريقيا سوق بِكر لتلقى السلاح وتصديره من إسرائيل، ومكاسبه المالية هى إحدى الأدوات المهمة لتعظيم الصناعات العسكرية الإسرائيلية. سادسا- تأسيس إطار متكامل للتحالف مع جنوب السودان يساعد إسرائيل على التملص من تهمة العنصرية التى بدأت تلتصق بها أخيرا نتيجة ميراثها الطويل فى اضطهاد الفلسطينيين. سابعا- لجوء إسرائيل إلى إفريقيا وتكثيف نشاطها فى هذه المنطقة جزء منه لتعويض خسارتها العلاقات مع تركيا ومن قبلها إيران الشاه، مما أغلق عليها جبهة الشمال والغرب للدول غير العربية، وجعلها فى حاجة إلى عنصر جديد يناسب خططها لحصار وإضعاف الدول العربية على حدودها، أو القريبة منها، لا سيما أن هذه الدول قد شهدت تحولات بعد ربيع الثورات غير مأمونة النتائج فى المستقبل بالنسبة إلى إسرائيل.